الصفحة الأساسية > العربية > ع > عمران

عمران

الحضارة في النظرية الخلدونية

كل اصدارات هذا المقال: [عربي] [français]


 "الحضارة" ما قبلها

لفظ عمران في اللغة العربية نعت، اكتسب أهمية كبرى في الدراسات التاريخية والاجتماعية الحديثة، بفضل الاستعمال المميز الذي حظي به في القرن الرابع عشر من طرف ابن خلدون، قاضي، معلم، مؤرخ وديبلوماسي وأحد أهم مفكري العرب والمسلمين. صاغ ابن خلدون (تونس 1332، القاهرة 1406) في المقدمة مفهوما للتاريخ والمجتمع، قورن بالتعاريف التي وضعها كل من مكيافيل Machiavel ، دي فيكو de Vico ، ومونتسكيو Montesquieu . نالت أفكاره الحداثية تقدير الأوروبيين، الذين تعرفوا إليها عبر الأتراك ابتداء من القرن التاسع عشر، الذين حظي عندهم ابن خلدون بتقدير مُهم. وقد قدّم أحد أوائل مترجمي وناشري بعض فصول المقدمة في الغرب ابن خلدون على أنه "مونتسكيو العرب" (von Hammer-Purgstall, 1812, p. 360). تشبيه ابن خلدون بالمفكرين الحديثين أعيد تداوله من طرف الكتاب في أوروربا وفي الشرق. كما عمد محمد علي -والي مصر وأوَّل من أصدر أمراً بترجمة كتاب الأمير لمكيافيلي إلى التركية-، سنة 1828 إلى إظهار تفوق الفكر الخلدوني على الكاتب الفلورنسي، وذكر الطهطاوي (1801-1873) رائد النهظة العربية، منتسكيو على أنه ابن خلدون الغرب.

لفظ "عمران" من المصطلحات المفتاحية التي استعملها ابن خلدون في المقدمة. يتعلق الأمر بمفردة مركبة ومتعددة المعاني، والتي يمكن ترجمتها في اللّغات اللاتينية باقتراب من المعنى الحديث للفظ "civilisation". جعل ابن خلدون من هذا اللفظ موضوعا لعلم جديد، ليضفي نوعا من الصفة العلمية في دراسة التاريخ والمجتمع. التي عانت في زمانه من سيطرة التقاليد الدينية.

إهتمام ابن خلدون بالتاريخ والمجتمع ذو جذور لها علاقة مباشرة بسيرته الذاتية: عاش في شمال إفريقيا القرن الرابع عشر، فترة انتقالية مهمة ما بعد حكم الموحدين، الذين جمعوا بين شمال إفريقيا واسبانيا نتج عن ذلك إزدهار حضاري كبير، منفتح على المؤثرات الأندلسية، قبل أن تندثر في القرن الثالث عشر. عرفت منطقة شمال افريقيا (بلاد المغرب) على إمتداد ثلاث قرون قبل الغزو العثماني لها، أزمة عميقة تخللتها محاولات فاشلة من طرف الدويلات البربرية الثلاث المتنافسة على تأسيس امبراطورية تشبه نموذج الدولة الموحدية.

عاش ابن خلدون طيلة فترة حياته المضطربة متنقلا فيها من تونس إلى المغرب، إلى الاندلس، إلى مصر ودمشق، داخل القصور ودواوين الملوك، متولياً مناصب مرموقة في: السياسة، القضاء، والتعليم. علامة كبير وسياسي محنك، مكنه طموحه إلى التنعم بثروة مدة قصيرة من الزمان، ثم سرعان ما وقع في محنة ذكرها في سيرته الذاتية "التعريف".

ابن خلدون حلقة وصل بين المفكرين الكلاسيكيين المعاصرين، اقترح تفسيرا للعالم وللسياسة بناء على أسس عقلية. ستة قرون بعد تأليف كتاب المقدِّمة ما يزال مرجعا أساسيا بالنسبة للباحثين عن الطريق إلى الحداثة، لا يمجد التاريخ وليس مجرد تقليد سطحي للنموذج الغربي معتبراً الفصل بين العلم والوحي، وبين السياسة والدين، في إطار من الإحترام المتبادل. من هنا أهمية ابن خلدون بالنسبة للفكر السياسي المعاصر (Turroni, 2005).

 علم العمران

نظراً لصعوبة وتشعب الموضوع، فإن المقال الحالي يهدف إلى توفير الوسائل الفيلولوجية والمفاهيمية الضرورية لفهم النص، ستتم الإشارة في حينه إلى مختلف الدراسات حول الكاتب من أجل إعادة تركيب مفصلة لطبائع وأطوار العمران (Turroni, 2005).

يجيب "علم العمران" على إشكالية مزدوجة هي قاعدة الفكر الخلدوني: الأولى، منهجية متعلقة بكتابة التاريخ، تطمح إلى منح المؤرخ قواعد وتزويده بمنهج من أجل انتقاء، تسلسل، وتقديم الأحداث. الثانية ذات طبيعة فلسفية تقوم على أساس البحث عن معنى التاريخ الإنساني، سؤال يناقشه ابن خلدون من وجهة نظر سياسية، والذي يمكننا أن نلخصه في ثلاث أسئلة أساسية: لماذا يوجد الملك؟ كيف يحصل ولماذا يضيعُ؟ تتداخل المسألة المنهجية مع الفلسفية هنا، لأنه من أجل الإجابة على السؤال الثاني توجَّب وضع طريقة للبحث في الأحداث، هي البحث عن معنى، عن إتجاه للتاريخ، وقواعد وآليات والتي بالإضافة إلى تسلسل الأحداث تقوم بالبحث عن مقاربة علمية للكتابة التاريخية.

لفهم أهمية سؤال الكتابة التاريخية الذي يطرحه ابن خلدون، يجب إعتبار الدور الذي لعبته الأحداث التاريخية خاصة في فجر الإسلام، فيما يتعلق بتثبيت العقيدة الدينية، وبعد ذلك في تعريف نظام المجتمع الإسلامي. كان الحديث (أفعال وأقوال الرسول وصحابته) عاملا حاسما في تطوير العلوم التقليدية من علوم قرآنية، وعلم الحديث، الفقه، وعلم الكلام. شكل علم الحديث بسبب طبيعة موضوعه "أي الحديث"، قاعدة أساسية لكل العلوم الاسلامية الأخرى بما فيها الكتابة التاريخية.

أهمية الحوادث المقدسة أنها تؤدي-في الإسلام كما في غيره من الأديان الموحاة- إلى مشكلة نقد مصداقية الأحداث ووسائل نقلها، وفي هذه النقطة نذكر صعوبة يتسبب فيها دائما الخلط بين الخبر وروايته. يعد "الخبر" مفهوما أساسيا في الكتابة التاريخية في الاسلام، الذي يعني في الوقت ذاته الحدث وروايته. المحدِّثون هم أول من طرح مسألة نقد الخبر، موجهين عنايتهم إلى الشق الثاني من معنى الخبر أي روايته. ونتيجة لهذا أصبحت "الثقة في الرواة" تحتل مركزا محوريا في مختلف العلوم التقليدية.

ارتكز نقد ابن خلدون للمؤرخين من معاصريه أساسا على تقليدهم الأعمى للحديث: واجه عقدة نقد الخبر عن طريق حل إشكالية اتصال الحدث بتمثلاته. أراد بذلك معرفة المبادئ التي تسمح بتمييز الصحيح من الخطأ، تحليل أحداث الماضي واستعمالها لفهم الحاضر.

يندرج موضوع العلم الخلدوني في مجال الواقع الحسي، وهو الأمر الوحيد الذي يمكن إدراكه عن طريق العقل البشري. تحدث ابن خلدون في مقطع طويل من كتاب المقدمة بالتفصيل عن العناصر الأساسية المكونة للتاريخ، يتعلق الأمر بما ينتج عن التعاون البشري الذي يسميه "عمران" ويشمل مختلف مظاهر الحياة داخل المجتمع، من السياسة إلى الإقتصاد، من أنماط الحياة إلى العلوم والتعليم : "التاريخ أنه خبر عن الإجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال مثل التوحش والتأنُّسِ والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصَّنائع سائر ما يحدث من ذلك العمران" (المقدّمة ص14، http://www.mohamedrabeea.com/books/book1_3227.pdf-)

العمران إذن مفهوم يحدد حقل بحث المؤرِّخ: "العمران وهو أحسن الوجوه وأوثقها في تمحيص الأخبار وتمييز صدقهامن كذبها وهو سابق على التمحيص" (المقدِّمة، ص 16
http://www.mohamedrabeea.com/books/book1_3227.pdf-)

المثال العلمي الخلدوني وضعي: بين غرضه للقارئ "شرحت [...] ما يُمَتِّعُكَ بعلل الكوائن وأسبابها" (ابن خلدون، المقدّْمة، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1979، ص 6)، نفس الجملة قالها ليوبولد فون رانك Leopold von Ranke أربعة قرون بعد ذلك في إعلانه عن إرادة توضيح: "كيف كانت الأشياء في الواقع" wie es eigentlich gewesen.

 معنى عمران

لهذا السبب يعتبر ابن خلدون واضع علم جديد، لأنّه غَيَّر معنى "عمران"، الذي استعمله كلفظ جديد فعليا. وتداوله غيره من بعده، خاصة في بداية القرن التاسع عشر توازيا مع إنتشار فكره في أوروبا. أثار لفظ عمران جدلا في العلوم الإنسانية وأصبح موضوعا للنقاش في الدراسات الخلدونية إلى غاية الآن. يتعلق الأمر بمفهوم جديد كثير التمفصلات، يطرح العديد من الإشكاليات المعجمية، لأنّه من جهة، ليس ذو دلالة واحدة، ومن جهة أخرى صعوبة وجود مقابل له في اللّغات الأوروبية يدل على معناه دلالة دقيقة.

عمران مشتق من الجذر ع.م.ر وله عدة معاني: الأوّل "سكن، بقي، أقام، استوطن"، وجملة ثانية من المعاني: "تعمير، كثافة، به ناس كثر، استصلح، هذّب جيدا، وعكسها قفر، صحراء، فظاظة"، وأخيرا يمكن لمفردة عمران أن تعني أيضاً "بناء منزل، والسكن فيه، جعله مرفها" (Lane, Arabic-English Lexicon, V, p. 2153-2156). هذه المجموعات الثلاثة من المعاني تعود كلها إلى معنيين أساسيين: من جهة إلى النشاط البشري، ومن جهة أخرى، إلى العنصر الجغرافي، أي المكان الذي فيه النشاط الإنساني وتطوره.

كان لفظ عمران قبل ابن خلدون يستخدم للتعبير عن أفكار حول الحياة، حول الساكنة، الأماكن الآهلة، واستصلاح أرض ما وتعميرها. وبهذا المعنى نجد في القرآن "وعمَروها أكَثر مِمَّا عَمَروهَا" (سورة 30 الروم/9)، واستعمل الجغرافيون العرب هذا اللفظ بمعنى أكثر واقعية بالرجوع إلى جهات الأرض المسكونة، التي يمكن فيها ميلاد الحياة وتطورها. أما فكرة التعمير والإستصلاح فهي مرتبطة بالإنسان مشيرة إلى مكانٍ يمكن الإقامة فيه أو مؤهلٌ لأن يكون عامرا إذا كان للنّباتات فهو مستصلح أو قابل للاستصلاح.

يحيد أحيانا قاموس ابن خلدون اللغوي عن المعاني الأصلية للألفاظ في اللغة العربية الفصحى، مثلما هو واضح في كتابه المقدِّمة أين يمكن للفظ عمران أن يفهم بعدة معانٍ مختلفة حسب السياق. ففي القسم الأول من الكتاب ذو الطابع الجغرافي استعمل الكلمة بمعناها الأصلي في اللّغة العربية الفصحى القديمة أي تعمير الأرض بالسكان في المناطق الآهلة. لكن هذا استثناء في قسم لا يمثل إلا عشر الكتاب، لذلك فإن استعمال اللفظ هنا أصيل. يستغله ابن خلدون للتّعبير عن موضوع علمه الجديد، في هذا المعنى يطلق لفظ عمران على كل ما ينتجه البشر في الحياة مقترنة جميعا: من العلوم إلى التقنية، إلى السياسة، إلى الإقتصاد، إلى الأخلاق، إلى الثقافة. وإذا كان اللّفظ ينحصر في القسم الأول في الحديث عن فكرة المكان الذي يستقر فيه الإنسان ويقيم عليه نشاطه، فإنّه هنا في هذا القسم الثاني يقدم موضوعا أكثر تعقيداً، لأنّ النشاط البشري والوسط الذي يتم فيه يتمازجان ويتفاعلان فيما بينها. مثلا يؤيد ابن خلدون الفكرة القائلة أنّ المناخ يؤثر على طبع وبدن الإنسان، فكرة وجد أساسها في نظريات الطبيب اليوناني جالينوس Galien (القرن الثاني ميلادي)، وتم تداولها من طرف الأطباء العرب، تقوم على مبدأ الكيفيات الأربع الأساسية : الحار، البارد، الجاف، الرطب، ينتج عن التركيب بينها إختلاف طبائع النّاس. وبالنسبة لابن خلدون فإن المناطق الأكثر اعتدالا توجد في منتصف الأرض، أين يتمازج الحار والبارد باعتدال، وأي زيادة في أحد تلك العناصر يحدث خللا في الطبع وفي الأخلاق "أبلغها في الإعتدال غاية لنهايتها في التوسط كما قدمناه فكان أهله من الإعتدال في خَلْقِهم وخُلِقِهم" (المقدمةً، ص35 (http://www.mohamedrabeea.com/books/book1_3227.pdf-

المعنى الجديد للفظ عمران له بدوره معنى عام ومعنيين خاصين: المعنى العام "حضارة" ويعرفه كالآتي: "هو التساكن والتنازل في مصر أو حلة للأنس بالعشير واقتضاء الحاجات لما في طباعهم من التعاون على المعاش" (المقدِّمة، ص17، (http://www.mohamedrabeea.com/books/book1_3227.pdf-. أما المعنيين الخاصين فنجدهما عندما يتحدث ابن خلدون عن نوعين من الحياة بربطها بما ينتج عن كل واحدة منها، وهما "عمران بدوي"، و"عمران حضري".

لم يتفق شراح ابن خلدون على ترجمة الألفاظ التقنية التي استعملها، لأنّها لا توجد ترجمة واحدة-فقط- ممكنة. وفي الغالب ترجم لفظ عمران في اللُّغتين الإنجليزية وَالفرنسية بكلمة "حضارة civilisation " (أنظر ترجمات الفرنسية والإنجليزية لكتاب المقدِّمة: De Slane 1862-68, Monteil 1967-68, Cheddadi 2002, et les études critiques de Hussein 1917, Bouthoul 1930, Talbi 1973, et, en anglais, la traduction de la Muqaddima de F. Rosenthal 1958, ainsi que les textes de E. Rosenthal 1958) بينما ترجمت إلى الألمانية بلفظي Kultur, Zivilisation
(Ayad, 1930 ; E. Rosenthal, 1932). من الضروري الملاحظة هنا أن إروين روزنتال Erwin Rosenthal استعمل لفظ Kultur في كتاباته باللغة الألمانية ولفظ civilization في كتاباته بالإنجليزية، مع التنبيه إلى أنّ civilisation الفرنسية تشتمل على معنى Kultur الألمانية (Rosenthal, 1932, p. 205)

بالعودة إلى المعنيين الخاصين، نجد أن كلمة بدو تطلق على سكان الصّحراء، ويمكن أن تطلق أيضا على ساكنة الأرياف. وفي القاموس الإنجليزي Lane ترجمت كلمة ب.د.و القديمة كما كانت مستعملة عند العرب في شبه الجزيرة العربية The people, or company of men, we " forth to the desert went forth from the region, or district, of towns or villages or of cultivated land, to the pasturing-places in the desert". أما الجذر ح.ض.ر على عكس ذلك يعني: "حاضر، مستقر". التضاد بين الجذرين ب.د.و وح.ض.ر واضح في العبارة "بدوِيٌّ يتحضَّرُ" : "ساكن الصحراء ينتقل إلى الإستقرار في المدينة أو في ضواحيها" (Lane, Lexicon, I, p. 170-172). واللّفظ "بدوي" في اللّغة العربية القديمة في جزيرة العرب قد تعرض لتحوّلات كبيرة في المراحل التاريخية اللاّحقة، هذا ما نجده في قاموس Dozy الخاص بالألفاظ العربية المستعملة من طرف المؤلفين العرب المتأخرين في الأندلس والمغرب تحديدا مثل ابن خلدون. فلفظ بدوي يعني : "المزارع، الريفي، القروي" (Dozy, Supplément aux Dictionnaires arabes, I, p. 59)، وأخيرا في القاموس اللاتيني- العربي، العربي اللاتيني le Vocabulista in arabico المؤلف في النصف الثاني من القرن الثالث عشر في الأندلس ترجم كلمة بدوي بـــ rusticus "ريفي".

وفي المقدّمة يعرف كل نوع بالنسبة إلى الوسط الذي ينمو فيه. فالعمران البدوي هو الذي يكون "في الضواحي [بالمعنى الحرفي للكلمة اللاتينية suburbium، مكان على أطراف المدينة] وفي الجبال وفي الحلل المنتجعة في القفار وأطراف الرمال" (المقدّمة، ص 23، (http://www.alwaraq.net، وعكس العمران البدوي نجد العمران الحضري "ومنه ما يكون حضرياً، وهو الذي بالأمصار والقرى والمدن والمدر للاعتصام بها والتحصن بجدرانها" (المرجع نفسه). تحوي كلمة حضري على كل أشكال الحياة التي تنمو داخل الأسوار والحصون، وهو العمران الحضري، بينما بدوي فهي تشمل أشكال الحياة البديلة: بين الترحُّل والريف. لهذا السبب بدل أن تترجم كلمة بدوي بـــ مترحل أو ريفي أو بدائي فإنه من الأجدر تحوير الأصل العربي بدوي إلى bédouin، إذا استعمل الكاتب المعنى العام أمّا إذا قصد أحد المعنيين الخاصين فمترحل أو ريفي.

تحليل مختلف دلالات لفظ عمران، يسمح لنا بالعودة إلى الوقوف على إختيار ترجمة بعينها لضبط المصطلح وتدقيق المعنى. أحد تلك الألفاظ التي استعملت لجعل "عمران" بمعنى مجتمع، كما فعل الباحث ناصيف نصّار، الذي اعتبر أن العلم الخلدوني، كعلم اجتماع بحق قبل وجود علم الإجتماع الحديث(Nassar, 1967, p. 143 ; voir aussi Oumlil, 1979, et Pizzi, 1985). في حين يحيلنا لفظ Sociologie الحديث إلى اللفظ العربي إجتماع مشتق من الجذر ج. م.ع (ضمَّ بعضه إلى بعض، وضع معاً) ومنها علم الإجتماع (Sociologie). بالإظافة إلى أن ابن خلدون يقيم وحدة هوية بين إجتماع وعمران، ثم لا يستعمل الأوّل ولكن الثاني "عمران" للدلالة على موضوعه التاريخي. في حين ترجم آخرون عمران بـــ culture (Mahdi, 1964 ; Rabi‘, 1967).

الإشكالية أنه رغم حداثة العلم الخلدوني إلاَّ أنّه ليس علما حديثا، إذن لتفادي إقحام فكر ابن خلدون الذي نفضل ترجمة موضوعه بــ civilisation، وعلى خلاف كل من société و culture، لم يصبح في لغة العلوم الإجتماعية الحديثة علما خاصا. سبب آخر يرجح ترجمة عمران بـــــ civilisation، هو على الرغم من أنّ لفظ عمران يمكن أن يدُلَّ في المعنى الخاص على نوعين من الحضارة، البدو والحضر، إلا لم يستعمل في العديد من الحالات بمعنى محايد، مثلما هو الحال بالنسبة للفظ culture في الأنتروبولوجيا المعاصرة. وقد وظّف ابن خلدون غالبا عمران كمرادف لحضارة، الذي يتأرجح معناه بين الكلمتين اللاّتينيتين (civilitas وcivitas ، (civitas يعني مدينة، مجتمع سياسي، بينما civilitas كما هو الحال في civilisation التي تضيف إلى المعنى الأوّل فرقا بسيطا في الجانب الأكسيولوجي- التقييمي. وبالنسبة لابن خلدون فإن الدلالة الحقيقية للفظ عمران ليست بتلك البساطة أي الحياة داخل مجتمع بل تعني الحياة المتحضرة.

لأجل هذه الأسباب تبدو لنا كلمة civilisation أكثر ملاءمة للتعبير عن كلمة عمران العربية، مع الأخذ بعين الإعتبار حقيقة السياقات الدلالية التي ترد فيها، لذلك يستحسن في بعض الحالات أن يعبَّر عن عمران بــــ: société (إجتماع) أو mode de vie (نمط حياة).

 العمران في حركة التاريخ

لقد قدمنا الطابع الإبتكاري للعلم الخلدوني، بالنسبة إلى موضوعه، الأمر الذي سيقودنا مباشرة إلى جوهر مفهومه للتاريخ.
إذا كانت هوية ابن خلدون كمؤرّخ معترف بها عالميا، فإن باقي التسميات الأخرى التي ينعت بها: كرائد لعلم الإجتماع الحديث، للأنتروبولوجيا أو لفلسفة التاريخ، تطرح مشكلا ابستمولوجيا. لأن هذه العلوم كما نعرفها -بصفتها الحالية في الغرب- تشكلت في فترة محددة من تاريخنا الحديث، حسب بعض النصوص التي تحدثت عن تأسيسها كعلوم مستقلة ذات مبادئ ومناهج خاصة بها. مع ذلك يمكننا قبول أن غياب فعل تأسيسي لا يمنع من وجود نوع معين من التفكير. وهذا لا ينفي وجود أي تفكير فلسفي حول العالم وطبيعة الإنسان في مجتمعات أخرى وعلى فترات زمانية مختلفة. لكن يعني ببساطة أن تلك الأفكار لم ينكن لها التشكل في فضاء إصطلاحي خاص بها، لذلك بقيت متماهية وغير متمايزة مع غيرها ضمن حقل فكري أوسع منها يعرف برؤيته الشمولية للواقع.
في حين، أنه عند أغلب كبار المؤرخين من كل عصر، ترفق رواية الأحداث التاريخية وتبنى على قاعدة افتراضات واعتبارات فلسفية، اجتماعية، سياسية وأنتروبولوجية. في أعمال ابن خلدون كماعند سابقيه من اليونانيين هيدوروت Hérodote، تيوسيديد Thucydide، بوليب Polybe، أو عند مكيافيل Machiavel، هيجل Hegel، شبنغلر Spengler ودي توينبي deToynbee، فإن التاريخ -بمعنى كتابة التاريخ- تتداخل فيه الفلسفة والعلوم الإجتماعية وتظهرمتشابكة يستحيل فصلها.
ولفهم المعنى الفلسفي لكلمة عمران كما وردت في المقدِّمة، يجب الرجوع إلى فكرة العُمْر: لنفس الجذر ع-م-ر التي اشتق منه الفعل عمَّرَ، بمعنى "العيش طويلا"، والإسم عمر الذي يعني حياة أو فترة الحياة.
الأهمية التي أضفاها ابن خلدون على هذا اللفظ هي-بلا شك- انعكاس للوعي بالتمييز بين ما هو موضوع للتاريخ وما هو الإجتماع: من جهة الإجتماع مفهوم سوسيولوجي يشير إلى صفى التشارك التي تطبع الحياة البشرية، في حين أن العمران مفهوم تاريخي خاضع لمعايير الطبيعة، إلى صيرورة تاريخية. وبخلاف العمران فالإجتماع غير معتبر في الزمن، ولا في الصيرورة، بل باعتباره صفة طبيعية للإنسان.
الإجتماع إذن كان يكفي ابن خلدون للقيام بدراسته التشريحية للمجتمع (Laroui, 1987, p. 111). باستعمال استعارة العروي: الطبيب-الشرعي، يمكننا الذهاب أبعد من ذلك والحديث عن فيزيزلوجيا المرض (physiopathologie) للحضارة، لأن ابن خلدون يفعل مثل ما يقوم به الأخصائي في الأمراض الفيزيولوجية، أي بالبحث عن الآلية التي تؤدّي إلى ظهور المرض ونتائجه. الإجتماع يشكل موضوعا ساكنا، يمكننا أن نصل فيه عن طريق الملاحظة إلى تصوّر متزامن للواقع، في حين يُشبِه العمران العضو الحي، يتشكِّل موضوعه في حركته التي سعى ابن خلدون إلى تمثلها.
اختلف الشّراح حول منهج ابن خلدون، وفي نظرنا التعريف الأكثر أهمية هو الذي تقدِّمه الواقعية (voir Nassar, 1967). لأنّ المقولات الأساسية للشرح الخلدوني للتاريخ- العمران واحدة منها فقط- هي نتيجة عملية عقلنة العناصر التاريخية والإجتماعية، المحصّلة عن طريق الملاحظة التجريبية للأحداث. وهو ما لا يمنع قبول إمكانية بسط فلسفي للمفاهيم الخلدونية (voir Talbi, 1973).
وبالفعل فإن ابن خلدون يعطي لتلك العناصر دلالات فلسفية، بإدخاله لعنصرين عقليين للقيام بوظيفة دينامية (حركية): أوّلا، قاعدة مشروعه العلمي هو القناعة أنّ في التاريخ ثوابت حتمية فنفس الأسباب تؤدّي إلى نفس النتائج. وما يربط بين هذه المبادئ الأساسية ويمنحها معنى الطبع، وهو المفهوم الذي يستخدمه ابن خلدون كمعيار تفسيري، تحدث الوقائع بالطبع (في اللغة اليوناني katà phỳsin)، كما هو الحال في العضوية الحية. بنيت الفلسفة الخلدونية على فكرة النظام الطبيعي الغائي: كل حضارة -بالمعنى التشكل التاريخي الحتمي- تحتوي في ذاتها أطوار: الميلاد، التطوُّر، الخراب والفناء.
ثانيا، تقوم نظرية ابن خلدون على فكرة أن الإنسان مدني بالطبع. واللّفظ العربي مدني يرادف اللفظ اليوناني politikós، لأنّ الإثنين مستمدتان من الفكرة اليونانية pólis مدينة بالعربية. يستقدم ابن خلدون فكرة ارسطو الإنسان حيوان سياسي zôon politikón. أن يكون الإنسان سياسيا بالطبع تعني بالنسبة للإنسان ضرورة الإجتماع مع بني جلدته. يختلف الفيلسوفان (ارسطو وابن خلدون) حول أصل تلك الطبيعة الإجتماعية للإنسان: حسب أرسطو أنّ ذلك مردّه إلى حاجة البشر إلى تلبية ضرورات العيش، وهي إذن عنصر إيجابي في تطوّر الطبيعة الإنسانية. يذكر ارسطو في كتاب السياسة: "العائلة هي الجماعة التي تتشكل بالطبيعة من أجل الحياة اليومية [...]، والقرية هي تجمع العائلات كأوّل جماعة بشرية لتلبية الحاجات غير اليومية [...]، وتجمع عدد من القرى ينتج عنه الدولة (pólis) [...] التي تهدف إلى كفالة حياة ممكنة، ووجدت الدولة لتكون الحياة سعيدة" (Aristote, Politique, I, 1252 b13 s).
وبخلاف ارسطو يستند ابن خلدون على أنتروبولوجيا سالبة، يلحظ أنَّ الأصل الأولي للتنظيم المدني هو في الطبيعة الحيوانية للإنسان، التي تدفعه إلى التوحش والظلم. بسبب هذه الطبيعة السلبية يحتاج الإنسان إلى وازع، أي السياسة: "فلا بد من وازع يدفع بعضهم عن بعض لما في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم، فالسلاح الذي يدفعون به الحيوان عنهم يتوفر لجميعه، وبذلك فهم في حاجة إلى واحد منهم تكون له عليهم الغلبة والسلطان، وهذا هو معنى المُلْك". (المقدمة http://www.alwaraq.net/)
وضع ابن خلدون السياسة في قلب علمه "علم العمران"، عبّر عن ذلك بعبارات أرسطية كرّرها في مناسبات عديدة: "الدولة والملك للعمران، بمثابة الصورة للمادة، وهو الشكل الحافظ بنوعه لوجودها" (المقدّمة، http://www.alwaraq.net)، ما يقصده ابن خلدون هنا بالمادة هو العناصر التي تحيا عن طريق السياسة: "فالدولة دون العمران لا تتصور، والعمران دون الدولة والملك متعذر" (المقدمة، ص).
مقارنة السلطان بالمفهوم الارسطي للصورة يجعله في قلب العمران. لكن ما هو أساس السياسة؟ في الفقرتين السابقتين الذكر من المقدّمة نجد استخدام لفظي: دولة وملك. في حين وحسب ابن خلدون فإن شرط وجود هاذين المبدأين هو العصبية. يتعلق الأمر هنا بمفهوم مرتبط بنوع الحياة القبلية، الذي يعني التضامن والتعاضد الموجود بين أفراد جماعة ما، سواء كان مبنيا على علاقات قرابة أو على أحلاف. تناول ابن خلدون كلمة عصبية الموجودة في الكتابات الكلاسيكية، لكن استخدمها بمعنى خاص. إذا كان معناها السائد هو شعور بالمؤازة داحل الجماعة، فهو يعني أحيانا الجماعة ذاتها، التي ترتبط بهذا النوع من المشاعر (Gabrieli, 1930).
تعتبر العصبية المحرك الأساسي للتاريخ في "المقدّمة" : تنشأ في الأماكن التي تصعب فيها الحياة، وتعتبر أصل الشجاعة والفخر عند البدو. تتدخل في بعض الحالات إلى الحياة الحضرية، يبدأ التحوّل أوّلا بتأسيس الملك، وفيما بعد احتلال مدينة والسيطرة عليها من طرف ملك آخر، أو إنشاء مدينة جديدة. بالنسبة لابن خلدون يعتبر المرور من شكل حضاري إلى شكل آخر أمر طبيعي، لأن هذا يخلق تحسُّناً في ظروف الحياة. يلاحظ ثلاثة مبادئ أساسية لتغيُّر: الغلبة، الرفاه، السلام. لا يمكن لهذه العناصر أن توجد إلا في العمران الحضري، لكنها في نفس الوقت عندما تبلغ درجة معينة، فإنّها سبب إنحلال ونهاية الملك. السبب أن ذلك يؤدي إلى تزايد فساد الطبيعة والأخلاق عند الفئة الحاكمة. وتحول الحكم إلى الإستبداد. ولهذا يصبح من السهل أن يستولي على الحكم جماعة جديدة، أصلها من البدو هي الآخرى.
يوجد أصل العصبية في العمران البدوي، ولكنها تميل بالطبع إلى تأسيس ملك: "أن المُلكَ والدُّول غاية للعصبية وأنّ الحضَارة غاية للبداوة، وأنَّ العمرَانَ كلُّه من بداوةٍ وحضارةٍ وملكٍ وسُوقَةٍ له عمر محسوس. كما أن للشَّخصِ الوَاحِدِ من أشخاصِ المكوِّنات عمراً محسوساً" (المقدّمة، ص 661).
في مفهومه العضوي للتاريخ، الذي يبينه من خلال المقارنة بين الحضارة وعمر الفرد، يعبِّر ابن خلدون باللفظ غاية عن مقابل اللّفظ الأرسطي télos ويعني في آن واحد: الهدف والمنتهى والمآل. فالدولة والملك بالنسبة للعصبية غاية موضوعية توجد في النظام الطبيعي للأشياء، والهدف ذو طابع ذاتي (Goichon, 1939, p. 23). وإذا كانت الغاية من العصبية هي الملك الذي يعود في أصوله الأولى إلى العمران البدوي، فغاية الملك هو العمران الحضري: "الملك غاية طبيعية للعصبية ليس وقوعه عنها باختيار إنّما بضرورة الوجود وترتيبه" (المقدّمة، ص85 http://www.mohamedrabeea.com/books/book1_3227.pdf- (
رغم أن الإقتصار على تحليل الصيرورة السياسية والإجتماعية قد يؤدي إلى الإستنتاج بأنَّ نظرة ابن خلدون للتاريخ تتصف بالتشاؤم والدورية، لأنّها تخضع إلى التكرار الدوري صعودا وانحلالا دائمين، في ذاتها.
ولإيجاد مؤشِر تطّور يجب الفصل بين السياسة والعمران وكذا بين العمران والتاريخ. إذا كان لا مفرَّ للملك والسلطة من الدّور الحيوي، فإن الحال ليس كذلك بالنسبة للعمران. لا يجب حتما أن ننسب فكرة نهاية التاريخ إلى ابن خلدون. الأمر-لو افترضناه- مما قد يكون إسفافا وتدليسا على نظرته للعالم المؤسسة على مبادئ عقلية، مستقلة عن الدين، دون أن تتباين معه أو تناقضه. تسمح لنا رؤيته الشاملة للتاريخ والحضار-التي تبقى ضمنية في النص- برصد إلى جانب الطابع الدوري- التشاؤمي للتاريخ، مبدأ تطّوُرياً (Turroni, 2009).
ولهذا الغرض يجب العودة إلى مفهوم الدولة الذي يترجم غالبا خطأ بـــ "État" كما أكّد على ذلك شدّادي أن لفظ دولة لا علاقة له باللّفظ الأوروبي الحديث État" " (Cheddadi, 2006, p. .318 s)وهو ما انتقده بشدة فرانز روزنتال من استعمال لفظ État لترجمة كلمة دولة، مشيراً إلى أنّه في النظرية الخلدونية لا توجد كلمة مناسبة للدلالة على مفهوم État فيما قبل العصر الحديث لــ "État": "لا وجود في النظرية الخلدونية للتاريخ [...] للمفهوم المجرد État. وجود الدولة عند ابن خلدون لا يكون إلاَّ إذا كانت متلاحمة ومحفوظة من طرف الأفراد والجماعة التي تتشكل منهم، أي الملك. وعندما يتلاشى الملك، فالدولة التي تتحد مع الملك مشكلة لحمة واحدة، تبلغ هي الأخرى نهايتها" (F. Rosenthal, The Muqaddimah, Introduction, 1958, I, p LXXX).
إذا كان لملاحظات روزنتال بعضا من التأسيس الحقيقي فهو في عدم خلطه كليا بين اللّفظين "دولة و État". رغم أنّ التأكيد على أنّ النظرية الخلدونية خالية من كل إشارة إلى فكرة الـ État محل نظر ومناقشة، بالإضافة إلى أنّه يمكن رصدها في المقدّمة في لفظ مدينة، الذي يقابل ويعبِّر بدقَّة عن معنى pólis اليونانية. وليس مصادفة أن يستعمل ابن خلدون المفهوم الأرسطية politikón zôon "حيوان مدني" مستعملا النعت مدني المشتق من الاسم مدينة. وإلى جانب لفظ مدينة نجد لفظ مصر، الذي يعني مدينة كبرى، ويستعمله ابن خلدون مثلا لوصف عواصم الإمبراطوريات.
أهمية المدينة لا تكمن في كونها الأكبر من حيث الإقليم إذ بإمكان الدولة أن تقام على أقاليم واسعة جدا. ولكن بالنسبة لابن خلدون فإن المدينة هي المركز الحيوي، ويجري مقارنة بين المدينة والقلب الذي منه تنبثق النفس الحيوية. في هذا الإتجاه، يمكن الحديث عن الدولة التي فيها الملك، وقارن المدينة بمركز دائرة:"[لابد من توسط الكرسي بين تخوم الممالك التي للدولة، لأنه شبه المركز للنطاق، فيبعد مكانه عن مكان الكرسي الأول وتهوي أفئدة الناس إليه من أجل الدولة والسلطان، فينتقل إليه العمران ويخف من مصر الكرسي الأول]" (المقدّمة، ص، http://www.alwaraq.net1-)
من أجل توضيح بأن المركز، المدينة، هو بمثابة القلب بالنسبة للامبراطورية، يضرب لنا ابن خلدون مثالا عن الإمبراطورية الفارسية، التي سقطت بعد استلاء المسلمين على عاصمتها مدائن (Ctésiphon)، بخلاف غزو المسلمين لسوريا الذي لم يتسبب في سقوط الإمبراطورية البيزنطية، بل أدّى إلى اقتطاع طرف من أطرافها فقط، لأنّ مركزها في القسطنطينية، والتي لم تحتل وقتها. المدينة إذن هي المركز الحيوي للملك كما أنّها الفضاء الإجتماعي للعمران.
التمييز بين مفاهيم الملك والمدينة له نتائجه في الخلاصة التي يمكننا الوصول إليها من المفهوم الخلدوني للتاريخ: إذا ماهينا بين الدولة والعمران (الذي يكون داخل المدينة) مع الملك، نلاحظ أن المدينة والعمران تابعان ضرورة إلى مصير الدولة، أي بدور أبدي للميلاد والفناء والأفول. في حين إذا احتفظنا بالمفهومين منفصلين متمايزين، نكتشف أن مصير المدينة والعمران ليس مرتبطا دائما بمصير الملك.
في الفقرات الثلاث الأساسية من المقدمة التي برهن فيها ابن خلدون على الدور العضوي للسلطة اتخذ من الدولة موضوعا لتحليله مع الملوك الذين يمثلون مختلف مراحله التطورية (المقدّمة). بينما لو بحثنا عن الفقرات التي موضوعها المدينة أو العمران نجد تغيُّراً -على الأقل جزئيا- في الرؤية. الفقرات التي يربط فيها ابن خلدون مصير العمران والمدينة بمصير الدولة أقل بكثير من تلك الفقرات التي خصصها للحديث عن إنفصال مصائرها ومن هذه الأخيرة تتولد فكرة التطوُّر.
عندما يؤكِّد ابن خلدون على أنّ تطوُّر الحضارة متناسب مع الدولة والملك (المقدِّمة) فإننا مدعوون إلى الإعتقاد بأنّ التناسبية تخص تراجع الحضارة أيضاً. في حين وعلى عكس ذلك يبيّن ابن خلدون أن الحضارة في المدن الكبرى، تنقل دائما إلى المستولي الجديد، وكلما كانت الدولة عظيمة كانت حضارتها أعظم وتنتقل إلى الدولة الجديدة [أن الدولة المتجددة إذا غلبت على الدولة السابقة لا بد فيها من تتبع أهل الدولة السابقة وأشياعها، بتحويلهم إلى قطر آخر تؤمن فيه غائلتهم على الدولة] (المقدِّمة). ومنه يستخلض أنّ مصير المدن ليس مرتبطا حتميا بمصير الدولة: فالحضارة يمكن أن تحفظ من طرف الحاكم الجديد أو المستولي الأجنبي(في حالة الغزو). ويضرب ابن خلدون مثالا عن الحضارة ما قبل الإسلام (الجاهلية) لبني اسرائيل، التي دامت أربعة آلاف سنة (بنو اسرائيل في التصوّر الإسلامي الكلاسيكي هم: العرب، اليهود والأرمن، دون استثناء في الفترة التي سبقت الإسلام) (المقدِّمة).
خصص ابن خلدون فقرة مدخل باب العلوم العقلية وانقالها لشرح المسار التاريخي لهذه العلوم من الفرس إلى اليونان ومن اليونان إلى العرب (المقدّمة). وهنا دليل آخر على أنَّ صاحب المقدِّمة يمتلك دقة في الملاحظة وتفتح عقلي كبير، أين تحليله للإنحلال الثقافي للغرب الاسلامي الذي سينبثق عنه التعرف على مبدأ التقدّم في أوروبا المسيحية، محيلا إلى أن هذه الأخيرة يمكن أن تكون استمرار لما قبلها: "وكذلك بلغنا لهذا العهد أن هذه العلوم الفلسفية ببلاد الإفرنجة، من أرض رومة وما إليها من العدوة الشمالية نافقة الأسواق، وأن رسومها هناك متجددة، ومجالس تعليمها متعددة، وداوينها جامعة وحملتها متوفرون، وطلبتها متكثرون. والله أعلم بما هنالك، وهو يخلق مايشاء ويختار" (المقدّمة، ص 292، http://www.alwaraq.net/-). مع ذلك يبقى ابن خلدون حذراً في تنبؤاته ويرجع الأمر في النهاية إلى الله.
وهنا يمكننا استعارة لغة هيجل للقول أنّه يمكن لحضارة ما أن تتجاوز الحضارة التي سبقتها في فترة تاريخية ما مع الحفاظ عليها في نفس الوقت. ومن هذه الملاحظات تقدّم لنا فكرة درس تاريخي للإنسانية، تكون فيه اللحظة اللاحقة أهم وأكثر تفوقا على اللحظة السابقة.
في الأخير، إذا كانت الصفة المهيمنة على النظرية الخلدونية هي الدور، فإن الأمر لا يتعلق بدائرة مغلقة على ذاتها، مكررا إلى ما لا نهاية ومنتجا لنفس الأطوار التاريخية. الدّور، بشكل أدق لولب حلزوني منفتح على تطوُّر وتقدُّم تصاعدي، وكل دور تاريخي جديد يعرض ثراءً وتفوُّقا على الأدوار التي سبقته.

جوليانة توروني

 بيبليوغرافيا

Les citations de la Muqaddima, dans la présente notice, renvoient respectivement à :
Q = Muqaddimat Ibn Khaldûn, Prolégomènes d’Ebn-Khaldoun, texte arabe publié, d’après les manuscrits de la Bibliothèque Impériale, par É. M. Quatremère, “Notices et extraits des manuscrits de la Bibliothèque Impériale et autres bibliothèques”, XVI-XVIII, B. Duprat, Librairie de l’Institut Impérial de France, Paris 1858, réimpression Maktabat Lubnân, Bayrût 1992, 3 vol. ;
M = Ibn Khaldûn, Discours sur l’Histoire universelle, trad. V. Monteil (voir ci-dessous).
La trad. anglaise de F. Rosenthal reste une référence incontournable : Ibn Khaldûn, The Muqaddimah. An Introduction to History, translated from the arabic by F. Rosenthal, Bollingen Foundation, New York 1958, 2e éd. Princeton University Press, Princeton 1967, 3 vol.
Œuvres d’Ibn Khaldûn en traduction française (références abrégées aux titres originaux) :
Kitab al-‘ibar : Histoire des Berbères et des dynasties musulmanes de l’Afrique septentrionale, trad. de Slane, Geuthner, n. ed. Paris 1982, 4 vol. ; Peuples et nations du monde, Extraits des ‘Ibar, trad. A. Cheddadi, Sindbad, Paris 1986, 2 vol.
Muqaddima : Prolégomènes historiques d’Ibn Khaldoun, trad. de Slane, in Notices et extraits des manuscrits de la Bibliothèque Impériale et autres bibliothèques, XIX-XXI, Imprimerie Impériale, Paris 1862, 1865, 1868 ; Ibn Khaldûn, Discours sur l’Histoire universelle, traduction nouvelle, préface et notes par V. Monteil, Commission libanaise pour la traduction des chefs-d’œuvre, Beyrouth 1967-1968, 2e éd. Sindbad, Paris 1978, 3 vol. ; Le livre des Exemples, I, Autobiographie, Muqaddima, trad. A. Cheddadi, Gallimard, Paris, 2002.
Ta‘rîf : Le voyage d’Occident et d’Orient, Autobiographie présentée et traduite de l’arabe par Abdesselam Cheddadi, Sindbad, Paris 1980.
Shifâ’ as-sâ’il : La voie et la Loi, ou le maître et le juriste, tr. R. Pérez, Sindbad, Paris 1991.
Œuvres critiques
Pour l’abondante bibliographie sur Ibn Khaldûn, on renvoie à : Aziz al-Azmeh, Ibn Khaldûn in Modern Scholarship. A Study in Orientalism, Third World Centre, London 1981, p. 229-324.
On se limite, ici, aux textes cités :
Ayad (M.K.), Die Geschichts- und Gesellschaftslehre Ibn Halduns, Cotta, Stuttgart, Berlin 1930.
Bouthoul (G.), Ibn-Khaldoun, Sa philosophie sociale, Librairie Orientaliste Paul Geuthner, Paris 1930.
Cheddadi (A.), Ibn Khaldûn, L’homme et le théoricien de la civilisation, Gallimard, Paris 2006.
Gabrieli (F.), Il concetto della ‘asabiyyah nel pensiero storico di Ibn Haldûn, «Atti della Reale Accademia delle Scienze di Torino. Classe di Scienze morali, storiche e filologiche», LXV, 1929-1930, p. 473-512.
Hussein (T.), Etude analytique et critique de la philosophie sociale d’Ibn-Khaldoun, Pedone, Paris 1917.
Laroui (A.), Ibn Khaldûn et Machiavel, dans Islam et modernité, La Découverte, Paris 1987.
Mahdi (M.), Ibn Khaldûn’s Philosophy of History, George Allen and Unwin, London 1957, n.e. University Chicago Press, Chicago 1964.
Nassar (N.), La pensée réaliste d’Ibn Khaldûn, Presses Universitaires de France, Paris 1967.
Oumlil (A.), L’histoire et son discours, Essai sur la méthodologie d’Ibn Khaldoun, Ed. techniques Nord-africaines, Rabat 1979, 2e éd. Société Marocaine des Editeurs Réunis, Rabat 1982.
Pizzi (G.), Ibn Haldûn e la Muqaddima : una filosofia della storia, All’insegna del Pesce d’Oro, Milano 1985.
Rabi‘ (M.M.), The Political Theory of Ibn Khaldûn, Presses Universitaires de France, Paris 1967.
Rosenthal (E.), Ibn Khalduns Gedanken über den Staat, R. Oldenbourg, München u. Berlin 1932 ; Political Thought in Medieval Islam, Cambridge University Press, London 1958.
Talbi (M.), Ibn Haldûn et l’Histoire, Maison Tunisienne de l’Edition, Tunis 1973.
Turroni (G.):
Il mondo della storia secondo Ibn Khaldûn, Jouvence, Roma 2002 ;
« Ibn Khaldûn : penseur classique de l’islam laïque », in M. Campanini (éd.), Studies on Ibn Khaldûn, Polimetrica, Monza 2005, p. 123-144 ;
« Ibn Khaldûn et le destin de l’histoire humaine entre politique et civilisation », in Z. Ben Saïd Cherni et Georges Labica (éd.), Ibn Khaldûn et la fondation des sciences sociales, Publisud, Paris 2009, p. 131-141.
Ouvrages généraux de référence
Le Coran (al-Qor’ân), traduit de l’arabe par R. Blachère, Maisonneuve & Larose, Paris 1980.
Dozy (R.), Supplément aux Dictionnaires arabes, Brill, Leyde 1881, 2 vol.
Goichon (A.M.), Vocabulaires comparés d’Aristote et d’Ibn Sînâ, Desclée de Brower, Paris 1939.
Lane (E.W.), Arabic-English Lexicon, Williams and Norgate, London, Edinburgh 1863-1893, Librairie du Liban, Beirut 1968, 8 vol.
Schiaparelli (C.), Vocabulista in arabico, Tipografia dei successori Le Monnier, Firenze 1871.

Pour citer : Giuliana Turroni, «‘Umrân», in Houari Touati (éd.), Encyclopédie de l’humanisme méditerranéen, printemps 2014, URL =http://www.encyclopedie-humanisme.com/?عمران.