نشأة علم الكلام اليهودي
لطالما اختلفت تعريفات علم الكلام حتى بين الأدباء والفقهاء وأصحاب علم الكلام أنفسهم منذ ظهوره على الساحة الفكرية والأدبية. بالرغم من ذلك، يمكننا أن نشير إلى ميزتين متأصلتين في علم الكلام الإسلامي الناضج منذ مطلع القرن التاسع للميلاد، وهما: الدفاع عن العقيدة الإسلامية في وجه التيارات الفلسفية والملل الأخرى (وهو ما يصطلح عليه البعض أحيانًا تعبير الخطاب التبريري أو الدفاعي)؛ والنَّظر العقلي المستند إلى مشارب شرعية والساعي إلى إثبات العقائد بإيراد الحجج ودفع الشُّبهات عنها.
قبل الخوض في التعريف بعلم الكلام اليهودي، يتوجّب علينا تصدير بعض المسائل الضرورية المتعلّقة بتطوّر الفكر الديني اليهودي قبل انخراطه في الثقافة الإسلامية منذ القرن التاسع للميلاد بصورة خاصة. يعتبر هذا التصدير بالغ الأهمية ليتسنّى لنا فهم التطوّرات اللاحقة الطارئة على الفكر اليهودي عمومًا والفكر الديني تحديدًا. بتأثير الإرث الفلسفي اليوناني، ولأسباب الرد على المعارضين والدفاع عن الدين الناشئ، فقد سعى آباء الكنيسة منذ نشوء المسيحية إلى تطوير فلسفة دينية عقلانية (علم اللاهوت) لتوضيح وتحديد وإدراك "الحقائق الدينية" عبر استخدام الإرث الفلسفي اليوناني، وخاصة فرعي المنطق وما بعد الطبيعة (العلم الإلهي). بعبارات أخرى، فقد سعى علم اللاهوت المسيحي إلى تشكيل وتعزيز ومناقشة المسائل الدينية عبر استخدام الجدل العقلاني والابتعاد عن سلطة النقل والفرض القسري. لذلك، فإنَّ العنصر المركزي في علم اللاهوت هو منهجيته المستندة إلى العقل والساعية إلى خدمة العقيدة، أكثر من استنادها المنهجي إلى المضامين والاصطلاحات والتصوّرات الخاصة بهذا العلم أو ذاك. وبخلاف أصحاب علم اللاهوت، يفترض التزام الفلاسفة بالإرث الفلسفي اليوناني والسعي نحو الوصول إلى المعرفة الحقيقية لا لغرض سوى المعرفة ذاتها.
ركّز علم الكلام الإسلامي منذ نشأته بصورة عامة على بعض المسائل الرئيسة، كمسألة الطبيعة الإلهية، وحدانية الله، علاقة الباري بالخلق عامة والإنسان خاصة، ومناقشة بعض المعضلات المركزية، مثل العدل الإلهي والعناية الإلهية وحرية الاختيار. يتخذ علم الكلام أشكالاً مختلفة، ويناقش مسائل مغايرة ضمن ملل وتيارات فكرية وطوائف دينية متباعدة، ويرتبط كل ذلك في المعضلات التأويلية والعقدية والسياقات التاريخية والعمرانية/الحضارية والاحتياجات الاجتماعية والسياسية المتباينة. وانطلاقًا من هذا المعنى، يمكننا الحديث عن علم كلام إسلامي وآخر مسيحي وآخر يهودي إلى غير ذلك من التصنيفات.
تمثّلت أهم المحاولات الفكرية العقلانية الإسلامية بأوضح صورها في تشكيل علم كلام المعتزلة، الذي تحوّل سريعًا إلى أكثر مدرسة كلامية انضباطًا على المستوى المنهجي وأعمقها فكرًا وأكثرها انتشارًا في منتصف القرن التاسع للميلاد. استخدمت كل فئة أو مجموعة أو ملّة من الملل الثلاث (اليهودية والمسيحية والإسلامية) المنهجية السائدة في علم الكلام وأسلوبها الأدبي واصطلاحاتها لتعزيز خصائصها العقدية. وعليه، فإنه ليس مستغربًا أن نتحدث عن علم كلام يهودي (أو مسيحي)، بمعنى أنه علم كلام يستند إلى العقيدة اليهودية (أو المسيحية) بمفاهيمها وأماناتها وتأويلاتها واحتياجاتها المميزة.
بكل ما يتعلّق بالآداب اليهودية التي تعاملت عقلانيًا ومنهجيًا مع الجوانب العقدية، نلمس أن القرن العاشر للميلاد كان قرنًا مفعمًا بالتحوّلات العميقة والنشاط الفكري الدؤوب لمجاراة التقدّم الفكري الطارئ على الآداب الإسلامية. كما ويمكننا أن نشهد أن نشوء علم الكلام اليهودي كان وليد انخراط الآداب اليهودية بمحيطاتها الثقافية الناطقة بالعربية. ونتيجة لشيوع اللغة العربية كلغة أم بين اليهود في نشاطاتهم ومصنّفاتهم الثقافية والفكرية، ظهر في الأفق عصرًا يهوديًا جديدًا مشبعًا بالحيوية والنشاطات الدينية والفكرية والثقافية. ومن بين أهم هذه النشاطات نذكر ظهور علم الكلام اليهودي، وهو أول تيار فكري يهودي يسعى إلى صياغة العقيدة اليهودية استنادًا إلى مفاهيم ومعايير عقلانية جديدة مختلفة عن تلك التي كانت سائدة فيما مضى بينهم وفي آثارهم ومصاحفهم. فقد تأثّرت الفرق اليهودية الثلاث المركزية - فرقة الربانيّين وفرقة القرّائين وفرقة السامريّين (لا تعتبر الفرقة الأخيرة في التشريعين الرباني والقرّائي فرقة يهودية) - بصورة عميقة جدًا بعلم الكلام، وبلغ الأمر بأن أصاب جوهر العقيدة ودفع باتجاه إعادة صياغتها من جديد. بعبارات أخرى، فقد كان التعامل الفكري العقلاني والفلسفي عمومًا، والفلسفي خصوصًا، مع العقيدة الدينية اليهودية غريبًا عن الآداب اليهودية حتى نهاية القرن التاسع للميلاد، إذا ما استثنينا مصنّفات الفيلسوف فيلون السكندري (Philo Judaeus، الإسكندرية، ت. 50 للميلاد بالتقريب) التي تركت آثارًا بالغة على الآثار المسيحية، ولكن لا نشهد مثل هذه الآثار على التراث اليهودي. برغم ذلك من الهام بمكان الإشارة إلى تأكيد بعض الباحثين، مثل برنارد ريفيل (Bernard Revel) وهاري ولفسون (Harry Wolfson)، أن تأثير فيلون كان غير مباشر على العلماء اليهود اللاحقين، وبصورة أشد وأكثر مباشرة على فرقة القرّائين. ويؤكّد ولفسون أن مصنّفات فيلون قد تركت آثارًا على نشوء علم الكلام الإسلامي من خلال تأثيرها على اللاهوت المسيحي بداية. استنادًا إلى مختلف المصادر اليهودية من القرن العاشر، فإن مثل هذا التعامل العقلاني المنهجي قد ظهر بين اليهود لأول مرة في مصنّفات داود بن مروان المكنّى بالمقمّص الذي سنتوسّع بشأنه لاحقًا. أما فيما مضى، فإننا نشهد بعض الاجتهادات اليهودية غير المنهجية للتعبير عن المسائل العقدية.
كذلك، من الهام بمكان الإشارة إلى الفيلسوف الطبيب إسحق بن سليمان الإسرائيلي (832- 950 بالتقريب، نشط غالبًا في القاهرة وقيروان) المشهور بتبنّيه الفلسفة الأفلاطونية الجديدة. نشر الإسرائيلي العديد من المصنّفات الفلسفية (نذكر: كتاب الاستقصات، كتاب الحدود والرسوم، بستان الحكمة، كتاب المدخل إلى المنطق، وكتاب الروح والنفس) والمصنّفات الطبية (ككتاب الحميات، وكتاب الأدوية المفردة والأغذية وغيرها الكثير) وكتاب تفسير سفر التكوين. بالرّغم من انتمائه إلى مدرسة الفلسفة الأفلاطونية الجديدة إلاّ أنه تأثر بصورة معينة ببعض اصطلاحات علم الكلام ولكن طغيان اصطلاحات الأفلاطونية الجديدة من شأنه طمس مثل هذا التأثير.
داود بن مروان المقمّص
داود بن مروان الرّقي المشهور بكنيته المقمّص (شمال العراق وسوريا حاليًا، النصف الأول من القرن التاسع للميلاد)، ولد يهوديًا، تحوّل إلى المسيحية، ثم عادة لاحقًا إلى اليهودية. تطلعنا العديد من الشهادات على حقيقة أنه انكبّ على دراسة العقيدة المسيحية في المدارس السريانية، وكان منكشفًا على الآداب المسيحية بالعموم والسريانية بالخصوص. نشر المقمّص مصنّفه الفلسفي "عشرون مقالة" (لا نعلم العنوان الأصلي له، ولكنه اشتهر في عصرنا بهذا العنوان) بالخط العربي ولكن لم تصلنا منه سوى النسخ المنقولة إلى الحرف العبري، باستثناء بعض الشذرات القليلة التي لا تزال مفقودة. يستخدم المقمّص العديد من عناصر علم الكلام المركزية (كالأسلوب الجدلي في الكتابة ومبنى المصنّف) إلى جانب استخدامه العديد من الاصطلاحات والحجج الأرسطية. أما بشأن المبنى، فقد قام بترتيب أبوابه على النحو التالي: العلم، الخليقة، الخالق، البشر والنبوة والوحي، الثواب والعقاب في الآخرة، ومقارنة الأديان. تعتبر جميع هذه المسائل من المسائل المركزية في كل مصنّف كلامي مسيحي وإسلامي على حدّ سواء (للمقايسة، يُنظر على سبيل المثال، كتاب البرهان والمسائل والأجوبة لعمّار البصري وكتاب التوحيد لأبي منصور الماتريدي). وفي معرض تعريفه للتوحيد، يتناول المقمّص العديد من دلالات لفظة "الواحد" ويؤكّد في مناقشته على أن الصفات الإلهية ليست أشياءً مضافة إلى الجوهر الإلهي (أو الذات الإلهية)، وهو تأكيد شائع في المصنّفات الكلامية: "إنَّ الواحد يقال على ستَّة أوجه: واحد في البساطة، وواحد في التركيب، وواحد في الجنس، وواحد في النوع، وواحد في العدد، وواحد في أنه لا مثل له" (المقالة الثامنة، الفقرة 34). بالرغم من ذلك، تعتمد مناقشته هذه على الأوجه الأرسطية الأربعة "التي بها يجب أن يكون الفحص عن حقائق الأشياء"، وهي: "أحدها وجود الشيء، أي هل هو أيس أو هو ليس ...؛ والثاني ماهية الشيء، أي ما هو في طبعه وذاته، جوهر هو أم عرض، ثم ما هو من ذلك؛ والثالث كيفية الشيء، أو أي الأشياء هو وإنما نطلب علم ذلك لنفصل بينه وبين غيره؛ والرابع لمية الشيء، أي لِمَ هكذا هو ولِمَ هكذا كان" (المقالة الأولى، الفقرة 2). كذلك، برغم استخدامه اصطلاحات كلامية إلاّ أنه يفهمها استنادًا إلى الفلسفة الأرسطية وليس إلى علم الكلام الناشئ. على سبيل المثال، فإنه يستخدم لفظتي "جوهر" و"عرض" الأساسيتين في اصطلاحات علم الكلام بشأن مكوّنات العالم الأساسية، ولكنه يستند في مناقشته لهما إلى التراث الأرسطي أكثر من اعتماده على علم الكلام. ومن جانب آخر، في سياق مناقشته مسألة حدث العالم فإنه أقرب في استخدامه لعلم الكلام أكثر منه إلى الفلسفة الأرسطية. وكما ذكرنا أعلاه، يناقش المقمّص كذلك مسائل تعتبر من صلب علم الكلام وبعيدة جدًا عن الفلسفة الأرسطية، مثل مسألة التوحيد، ومسألة العدل الإلهي، والثواب والعقاب، والمعاد.
من الجدير بالذكر أن المقمّص كان قد نقل تفسيرًا سريانًا حول ستة أيام الخلق، كما تظهر في مطلع سفر التكوين، إلى العربية، ولم تصلنا منه سوى بعض الشذرات القليلة جدًا. ولكن، احتفظ لنا المفسّر القرّائي أبو يوسف يعقوب القرقساني (ت. 950 بالتقريب، بغداد) في تفسيره للتوراة (كتاب الرياض والحدائق) وكذلك كتابه "تفسير بريشيت" (تفسير ستة أيام الخلق) بالعديد من تفسيرات المقمّص (التي نقلها عن السريانية) من دون أن يذكر ذلك صراحة في كل اقتباس، ولكن أكّد على ذلك في مقدمة تفسيره هذا (لا زال مخطوطًا) وهي نفس المقدمة التي تظهر في كتاب "تفسير بريشيت".
نشهد ظهورًا قويًا لمثقفين يهود ينتمون إلى فرقة القرّائين على خشبة المشهد الثقافي والديني اليهودي خلال النصف الثاني من القرن التاسع. وتنصب جهود هؤلاء على رفض التراث اليهودي المقدّس لدى فرقة الربانيّين، كالمشناه والتلمود. ومن اللافت أن لغة هؤلاء الناشطين تستبطن العديد من الاصطلاحات الكلامية العربية، قاموا في بعض الحالات بترجمتها إلى العبرية، وتعتمد مبنى المصنّفات الكلامية أكثر من أي مبنى آخر.
فرقة القرّائين
تعتبر القرّائية فرقة يهودية وتتميّز برفضها سلطة ما يصطلح عليه تعبير "التراث الشفهي" - أو التوراة الشفوية باصطلاح فرقة الربانيّين - والذّي يتجسّد بصورة خاصة بمصنّف المشناه والتلمود البابلي بوصفهما السلطة الدينية الأسمى إلى جانب جميع أسفار العهد القديم المدوّنة. وهناك العديد من الحاخامات في العصور القديمة والحديثة الذين يرفضون الاعتراف بالهوية اليهودية لهذه الفرقة لهذا السبب تحديدًا، لأنه وفق منهج هؤلاء فإن هذا التراث يعتبر ركنًا من أركان الإيمان اليهودي. وبالمقابل، يعتقد القرّاؤون أن جميع الشرائع والأوامر الإلهية متضمّنة حصرًا في العهد القديم المكتوب. وصلت اليهودية القرائية ذروة نهضتها الفكرية والإبداعية - بما في ذلك وضع تفاسير لجميع أسفار العهد القديم وكتب حول الشرائع وعلم الكلام وعلوم اللغة العبرية - خلال القرنين العاشر والحادي عشر للميلاد وبصورة خاصة في القدس وبغداد. نتج عن حملة الفرنجة (الحملة الصليبية الأولى 1096-1099م) على القدس اندثار المركز القرّائي الفكري والاجتماعي المركزي في القدس ما أفضى إلى وضع حدّ للنهضة الفكرية للقرّائين.
ظهر علم الكلام اليهودي، بوصفه اللاهوت اليهودي الأساس - خلال القرن التاسع للميلاد بداية، حين كان علم الكلام الإسلامي بصورة عامة، والمعتزلة بصورة خاصة، لا يزال في طور التشكّل المنهجي، وبهذا المعنى يمكننا اعتبار بعض المفكرين اليهود كمساهمين حقيقيّين في تطوّر علم الكلام لأنهم كتبوا مصنّفاتهم باللغة العربية بأحرف عربية (لا بأحرف عبرية كما جرت العادة لاحقًا، أعني ما نطلق عليه في عصرنا تعبير "العربية اليهودية"). بصورة عامة، لم تشذ المصنّفات الكلامية اليهودية عن تلك المصنّفات الإسلامية أو المسيحية، وركّزت على المسائل نفسها، إلى جانب الإشارة إلى بعض العناصر والمسائل التي تتميّز بها اليهودية عن غيرها من الملل. كذلك، يمكننا القول إن بعض الاهتمامات السائدة بين المتكلمين اليهود لم يتم التعبير عنها تمامًا بنفس الطريقة التي عبّرت عنها المصنّفات الإسلامية. على سبيل المثال، قضية مركزية الملائكة في الإسلام بوصفهم الرسل الذين يؤدّون الرسائل من وإلى الأنبياء، في مقابل هامشيتها في اليهودية لأن الملائكة لم تحظ بدور مركزي في تأدية الرسالة إلى موسى وفق العقيدة اليهودية السائدة في تلك الحقبة التاريخية، كما سنشير إلى ذلك لاحقًا. كذلك، نشهد أن المعجزات عامة، وتلك التي جاء بها موسى خاصة، احتلت مكانة مركزية في مصنّفات المتكلمين اليهود قياسًا بالمكانة التي حظيت بها في مصنّفات المتكلمين المسلمين. كذلك، نشهد نشوء ظاهرة جديدة ومثيرة في الآداب اليهودية في حينه تتلخّص في ظهور مصنّفات باللغة العبرية تستخدم اصطلاحات ونظريات علم الكلام، كمصنّفات المفكّر اليهودي القرّائي المركزي بنيامين بن موسى النهاوندي (نهاوند، نشط في النصف الأول من القرن التاسع للميلاد)، التي لم يصلنا منها شيء باستثناء بعض الشذرات القليلة، والرسالة المشهورة باسم "رسالة القومّسي المنحولة" (The Pseudo-Qumisian Sermon) التي تحمل علامات النشاط القرّائي في نهاية القرن العاشر في مدينة القدس. إن الاصطلاحات والأسلوب الجدلي الخاص المعتمدة في هذه الرسالة قريبة جدًا من تلك التي يستخدمها الناشط القرّائي دانيال القومّسي الدامغاني (قومس، هاجر إلى القدس في سنة 880م تقريبًا ونشط بها في نهاية القرن التاسع وخلال النصف الأول من القرن العاشر) في تفسيره لأسفار الأنبياء الصغار الذي وصلنا كاملاً تقريبًا وشذرات تفسيره لبعض أسفار العهد القديم الأخرى. تميل هذه الرسالة إلى استخدام اصطلاحات المعتزلة، مثل تأكيدها على فكرة التوحيد والعدل الإلهي والتعويض والعقاب في الآخرة. كما ونشهد أن هذه الرسالة تؤكّد بصورة خاصة على اصطلاحات أساسية تنتمي حصرًا إلى المعتزلة، مثل التأكيد على النظر العقلي بوصفه فرضًا دينيًا؛ والخلق "لا من شيء"؛ والرفض الصارم لأي مظهر من مظاهر التشبيه والتجسيم؛ واعتبار العهد القديم الكتاب المقدّس الوحيد الذي يتمتّع بسلطة إلهية؛ واعتبار النقل نتاجًا للجهد البشري الأيديولوجي، ومن هنا فإن الرسالة تتعمّد إضفاء الطابع السلبي على النقل واعتبارها عثرة أمام تحقيق الإنسان لقواه العقلية، وتؤكّد من جهة أخرى على تمتّع الإنسان بالعقل والإرادة الحرة، ولذلك فإن بمقدوره أن يدرك العقائد والأمانات التي فرضها الله عليه من دون الاستعانة بالنقل أو بأية مؤسّسة دينية؛ والتأكيد على أن المعجزات هي وليدة التدخّل الإلهي وليس للملائكة أو الرسل أو الأنبياء أو أي مخلوق آخر أية قدرة على اجتراحها. ومن الهام بمكان الإشارة في هذا السياق إلى أن أهل الاعتزال أكّدوا على مركزية العقل لدى الإنسان، ويعتبرون قرآنيّين بامتياز لأنهم قد نظروا إلى السنّة النبوية بوجه عام بنظرة متشكّكة، ولطالما أحالوا إلى العقل في تناولهم لها. بالرغم من ذلك، فإننا نسمع أصداء الجدل الحاد بشأن مكانة النقل بين الفرقتين المركزيتين في اليهودية، أعني فرقة الربانيّين وفرقة القرّائين، أكثر مما نسمع أصداء هذا الجدل بين أهل الكلام وأهل الحديث (أو أهل السنة والجماعة) في الإسلام. ربما يعود ذلك إلى حقيقة أن المعتزلة بصورة خاصة قد خسرت المعركة حول هذا الموضوع في وقت مبكّر، كما يشير المستشرق الألماني جوزف فان أس (Joseph van Ess) بصورة خاصة. يتّفق الربانيّون والقرّاؤون على مركزية القيمة المعرفية لما اصطلحوا عليه تعبير "الخبر الصادق". ولكن رفض القرّاؤون منح هذا الخبر الصادق أية هالة أو سلطة فوق بشرية، ومن هنا فقد رفضوا المنظور الربّاني الذي يرى بهذا الخبر (أي النقل) التفسير الوحيد المقبول للكتاب المقدّس (العهد القديم). يبدو أن بعض المتكلمين اليهود بصورة عامة، والقرّائين بصورة خاصة، قد سَاوَوا بين فرقة الربانيّين ونظرتهم إلى النقل وكلامهم على الله وبين المتكلمين الأشاعرة.
لم يصلنا أي مصنّف قرّائي من القرنين التاسع والعاشر المخصّص لعلم الكلام. ونعلم أن هناك بعض المصنّفات القرائية الكلامية التي نشرت خلال هذين القرنين، ولكن لم تصلنا معلومات كثيرة حولها. على سبيل المثال، يخبرنا يعقوب القرقساني في معرض مصنّفه الموسوم بـ"كتاب الأنوار والمَراقب" (المنشور بين السنتين 1939-1943م) أنه قد وضع كتابًا يحمل العنوان "كتاب التوحيد". كذلك، يُعزى لداود بن بوعاز (نشط في نهاية القرن العاشر في القدس) كتابًا يحمل العنوان "كتاب الأصول".
على وجه العموم، فقد استبطن المفكرون القرّاؤون علم الكلام في مصنّفاتهم المختلفة، كتفسيراتهم للعهد القديم وكتب العقائد والأصول والفقه والتشريع. إذ اعتمد المصنّفون القراؤون الأوائل، الذين نشطوا في نهاية القرن التاسع ومطلع القرن العاشر للميلاد، في كتابة مصنّفاتهم باللغتين العبرية والآرامية مع بعض الألفاظ والعبارات العربية، وأكّدوا بصورة كبيرة على رفضهم الاستناد إلى ما اصطلحوا عليه تعبير "الكلام البرّاني" (أي آداب وعلوم غير اليهود). ولكنهم، بالرغم من ذلك، لم يجدوا حرجًا في استخدام الحجج الكلامية واصطلاحات علم الكلام وأسلوبه الجدلي. أما في معرض القرن العاشر، فقد انتقل المصنّفون القرّاؤون إلى استخدام اللغة العربية، كما فعل على سبيل المثال سلمون بن يروحام (الذي نشط في القدس في النصف الأول من القرن العاشر)، إلى جانب نشره مصنّفًا واحدًا بالعبرية. ولكنهم لم يتخلّصوا تمامًا من المفهوم السابق القائل بضرورة الابتعاد عن استخدام "الكلام البرّاني" ومحاربتهم هذا النهج الذي سيسود لاحقًا. زد على ذلك، إن بعض المفكّرين القرّائين المتأخرين، مثل يافث بن عيلي بن حسن البصري (نشط في نهاية القرن العاشر وبداية القرن الحادي عشر في القدس)، أكّدوا على هذا المفهوم، ولكن ذلك لم يمنعهم من كتابة جلّ مصنّفاتهم، ومن ضمنها تفسير أسفار العهد القديم باللغة العربية (وإنْ كانت بأحرف عبرية)، ومن توظيف علم الكلام بوصفه الأساس المعرفي للمدرسة التفسيرية التي اعتمدوها. خلافًا لذلك، نشهد أن القرقساني يعتبر شاذًا في هذا الشأن، إذ إنه شنّ حربًا ضروسًا على هذا المفهوم وتبنّى صراحة علم الكلام واصطلاحاته في تفسيره للتوراة (كتاب الرياض والحدائق) ومصنّفه في الفقه والتشريع والفرائض (كتاب الأنوار والمَراقب)، بالرغم من أن تبنّيه لعلم الكلام اتّسم بكونه انتقائيًا، أسوة بالعديد من المتكلمين اليهود في ذلك العصر.
لاحقًا، نشهد أن الكلام المعتزلي قد أصبح أكثر منهجية في مصنّفات المفكّرين القرّائين اللاّحقين، واندمج المتكلّمون القرّاؤون أكثر فأكثر في مناقشات المعتزلة وتطوّرها، ونشروا مصنّفاتهم بالعربية بأحرف عربية. يعتبر يوسف بن إبراهيم هكوكن البصير (نشط في القدس في النصف الأول من القرن الحادي عشر) أحد أعلام المعتزلة اليهود، ونشر مصنّفاته الكلامية بالعربية بأحرف عربية وحاول أن يحافظ على الخطوط المنهجية للمعتزلة، وانخرط في المناقشات الداخلية بين المعتزلة. وبالمقابل، اختار أبو سعيد ليفي بن يافث بن حسن البصري (نشط في النصف الأول من القرن الحادي عشر في القدس)، وهو نجل يافث بن عيلي المذكور أعلاه، أن يكتب مصنّفاته التي تتبنّى الكلام المعتزلي بالعربية ولكن بأحرف عبرية. ومن الهام بمكان الإشارة إلى أن كلاهما قد استخدما ألفاظًا وعبارات توراتية عبرية في مصنّفاتهما كمحاولة منهما للتأكيد على هويتهما اليهودية. اشتهر ليفي بن يافث بوصفه واضعًا مصنّفات في التشريع اليهودي وتفسير العهد القديم، ولكن يبدو أنه كتب كذلك مصنّفات تنتمي إلى علم الكلام المعتزلي (منها مصنّفه المطبوع "كتاب النعمة"). تنتمي الاصطلاحات والأفكار المستعملة في هذا المصنّف إلى مدرسة الاعتزال البصرية، ويبدو منه أنه كان منكشفًا على مصنّفات هذه المدرسة، وربما وقعت بين يديه مصنّفات معاصره القاضي عبد الجبّار (ت. 1025م). إضافة إلى ذلك، يكشف لنا مصنّفه "كتاب النّعمة" أنّه كان مطّلعًا على الكتب الإسلامية. نشهد أن يوسف البصير تجاوز أكثر من ليفي بن يافث، إذ إضافة إلى قراءته وإحالاته إلى مصنّفات عبد الجبّار، فقد دأب على أن يكون منكشفًا على آخر المستجدات والنقاشات الدائرة بين صفوف المعتزلة ومصنّفاتهم التي أصدرها تلاميذ عبد الجبّار وتعامل معها بالنقد. يعتبر ليفي بن يافث ويوسف البصير شخصيتين هامتين لأنهما تمثّلان التحوّل العظيم الطارئ على أدبيات المعتزلة القرائين وعلى النظرة إلى مصنّفات المعتزلة المسلمين والتعامل معها والمساهمة في تطويرها بمعزل عن الانتماء الديني.
فرقة الربّانيّين
يعتبر سعيد بن يوسف الفيومي (المشهور باسمه العبري سعاديا غاؤون، نشط في الفيوم وبغداد، 882-942م) أوسع فكرًا، وأعظم إبداعًا، وأغنى تفسيرًا، وأشهر قيادة من بين جميع الشخصيات اليهودية في العصور الوسطى. كما واعتبر أعظم ممثّل لعلم الكلام اليهودي في عصره، وذلك لإقدامه على دمج علم الكلام في الدراسات التلمودية وإضفاء سلطته الدينية والقيادية عليها. لهذا السبب، فإن من شأن البحث في فكر الفيومي وخلفيته وتأثيره أن يعتبر مقدمة ممتازة لعرض علم الكلام اليهودي الواثق بنفسه والمحكم.
كان الفيومي أول مفكّر ورجل دين قيادي في الطائفة اليهودية الذي ساهم بدرجة حيوية في تأسيس علم الكلام اليهودي في عصره. ولفعل ذلك، قام باستعارة أسلوب الكلام الجدلي والاصطلاحات الكلامية والمناهج التفسيرية السائدة بين أهل الكلام في طرح المسائل المختلفة، أهمها مسائل العقيدة ومعالجتها عقلانيًا. ومع ذلك، وأسوة ببقية المفكرين والمفسرين اليهود في عصره، فإنه لم يكن ملتزمًا بإطار منهجي أو فكري يفرض عليه نتائج بحثه، بل استعمل الفيومي علم الكلام لتعزيز العقيدة اليهودية وإعادة صياغتها من جديد على أسس عقلانية ومنهجية. بعبارات أخرى، فقد كان الفيومي ملتزمًا بالعهد القديم وبعض التراث الشفوي اليهودي ولكنه لم يرَ ضرورة ليلتزم بأي إطار آخر كإطار علم الكلام. ومن الهام بمكان الإشارة إلى أننا لم نقل إنه كان ملتزمًا بالتراث النقلي اليهودي برمّته، وذلك لأنه كان فعلاً انتقائيًا في تعامله مع التراث الشفوي اليهودي (ما اصطلحنا عليه أعلاه تعبير النقل، وهو المتشكّل من المشناه والتلمود بصورة أساسية)، كما وقام بإعادة صياغة هذا التراث ليتناسب مع ضروريات علم الكلام، إضافة إلى أنه تبنّى بعض أطروحات علم الكلام وعقائده المميزة التي تتلاءم والعقيدة اليهودية كما فهمها ورفض البعض الآخر أو تجاهلها ببساطة إذا ما تعارضت مع فهمه للكلام ومع أهداف مشروعه الرائد. وقد نجح في فعل ذلك لأن علم الكلام بداية وقبل كل شيء يعتبر منهجية وبناءً فكريًا وأسلوبًا أدبيًا لصياغة الأطروحات أكثر بكثير من كونه حزمة من الأمانات والأفكار والعقائد.
يبدو واضحًا أن الفيومي تبنّى الأصول الخمسة التي نادت بها المعتزلة وخاصة الأصلين الأولين، أعني التوحيد والعدل الإلهي. يعتبر مصنّف "الأمانات والاعتقادات" أهم كتاب كلامي للفيومي، والذي نقل إلى العبرية على يد يهودا ابن تيبون في القرن الثاني عشر. يعتبر هذا الكتاب أول محاولة يهودية على صعيد إعادة كتابة العقيدة اليهودية بتراثها الكتابي والشفوي بصورة منهجية، إلى جانب تفسيره للعديد من أسفار العهد القديم وتفسير "كتاب المبادئ" (سيفر يتسيراه، المنسوب إلى إبراهيم الخليل وفق التراث اليهودي)، بالاستعانة باصطلاحات علم الكلام والعديد من عناصر التراث الفلسفي اليوناني المعرّب. وعلى هذا النحو، فقد أدخل الفيومي علم الكلام بوصفه جزءًا ورافدًا رئيسًا في الثقافة اليهودية.
يتجلّى علم الكلام اليهودي بصورة كبيرة في العديد من أوجه تفسير الكتب المقدَّسة، وخاصة في الأوجه التالية: تفسير الألفاظ والجمل والقصص التوراتية بصورة عقلانية، ترجمة التوراة إلى العربية، التوسّع في التعليقات والشروح عند تفسير قضايا وإشكالات لاهوتية مركزية في علم الكلام (كمسألة وجود الله والخلق من لا شيء والخلق الزماني وخلق الجواهر والأعراض وتركيب العالم وغاية الخلق والرسالة والنبوة والتوراة الشفوية والمعجزات)، والاصطلاحات المستخدمة في تفسير تركيب الخليقة، والتركيز على قضايا محورية بين المعتزلة وخاصة التوحيد والعدل، ومبنى التفسير والأسلوب المستخدم به لعرض وطرح نظرية المفسّر وتعزيزها بأسلوب جدلي، وإثارة تساؤلات هامة حول اصطلاحات وقضايا توراتية يبدو ظاهرها إشكاليًا وطرح حلول عقلانية بشأنها كقضية المعجزات، واعتماد منهج ظاهرية النص والابتعاد عن مناهج المدراش البعيدة والرمزية والمجازية وأشباهها إلى جانب السعي نحو تفسير الاصطلاحات التوراتية المشبّهة والمجسّمة بصور مخالفة. وعلى وجه العموم، يستند منهج ظاهرية النص إلى قواعد النحو وفقه اللغة والسياقات التاريخية والعقل.
إلاّ أن منهجية الفيومي تبدو أكثر تعقيدًا من هذا، إذ إنه يوضح في الكثير من أعماله (مثل مقدمته لتفسير وترجمة التوراة) بأن العلوم البشرية تستمد من ثلاث مصادر أساسية هي: العقل والنص والنقل، يجب الاعتماد عليها في تفسير أية جملة توراتية. لهذا يؤكّد على أن جميع تفاسير الجمل التوراتية يجب أن تعتمد على منهج ظاهر النص لتفسير ألفاظها بحيث يستند المفسّر إلى الدلالات المشهورة السائدة بين الجمهور باستثناء تلك الحالات التي تتعارض مع الحواس أو العقل أو نص الكتاب أو النقل، حينها يجب أن نعلم أن في النص "لفظة أو ألفاظ قد جاءت مجيء المجاز" وأنه يجب ردّها إلى المحكم لتتوافق مع "المحسوس والمعقول والمكتوب الآخر والمأثور". ويطرح الفيومي مثالاً ويقول: "مما ينحاز إلى الباب الأول (المحسوس) أن التوراة تقول ‘وسمَّى آدمُ اسمَ زوجته حوَّاء لأنها كانت أُمَّ كلِّ حيٍّ’ [التكوين 3: 20] فإن تركنا لفظة ‘كلِّ حيٍّ’ على مشهورها من العموم كابرنا المحسوس إذ ذلك يوجب أن يكون الأسد والثور والحمار وسائر الحيوان بني حوَّاء، فلما لم تكن حيلة فيدفع المحسوس اعتقدنا أن في الفسوق (جملة توراتية) كلمة مضمرة بها ما يوافق المشاهَد كما سنشرح"، وهناك يضيف الفيومي إلى "كلِّ حيٍّ" كلمة "ناطق" بحيث تصبح "لأنها كانت أُمَّ كلِّ حيٍّ ناطق" (Zucker, 1984, 18). أما بخصوص النقل، فيبدو موقف الفيومي أكثر تعقيدًا مما يبدو للوهلة الأولى، إذا إنه غالبًا ما يتجاهله ببساطة أو في حال استشهاده بالنقل فإنه يقوم بتأويله تأويلاً عقليًا بحيث يستقيم مع العقل.
فيما يلي نركّز على بعض الأمثلة التي ترد في ترجمة الفيومي للتوراة لتوضيح آثار علم الكلام في منهجه في الترجمة والذي بالضرورة يتضمّن عناصر تفسيرية وتأويلية. وسوف نركّز على الجمل التوراتية الأولى لسفر التكوين كمثال يعكس منهجه العام. يقوم الفيومي بتفسير الكلمة الأولى الواردة في الجملة التوراتية الأولى "بريشيت برا إلوهيم": أَوَّلَ ما خلق الله، بينما تعني حرفيًا "في الابتداء خلق الله"، أو "في الأولية خلق الله"، علمًا أن لفظة "إلوهيم" هي صيغة الجمع لكلمة إلوها (إله) لذلك فإنها تعني إلهة، ولكننا سنتجاوز هذه الإشكالية لنركّز على ما نحن فيه فقط. بعد عرض الفيومي تفسيره النحوي لاختياره هذه الترجمة غير الحرفية، يقول: "فسَّرتُ بريشيت أَوَّلَ ولم أقل في أوَّلِ ... [لأنني] إنْ عبَّرتُ بريشيت في الابتداء يجب أن يكون ثَمَّ شيءٌ موجود قبل خلق السَّماء والأرض وذاك غير جائز" (مقتبس في تفسير يافت بن عيلي لنفس الجملة، يُنظر Ben-Shammai, 1977، ص 104-105). وعليه، فإن الفيومي يسعى إلى التأكيد على وحدانية الله في ترجمته.
ينقل الفيومي عبارة "فروَّح إلوهيم ميرحّيفيت" (التكوين 1: 2) - ورياح الله تهبُّ" في حين ينقلها العديد إلى "وروح الله ترفرف" بما في ذلك الترجمات اليهودية إلى الإنجليزية. لقد اختار الفيومي هذه الترجمة لتفادي إمكانية الكثرة في الله إضافة إلى معارضته للتفسير المسيحي الذي يعتمد على هذه الجملة التوراتية لتعزيز عقيدة الثالوث (الآب أو الذات، والابن أو الكلمة، والروح القدس). ولتعزيز منهجه المعتزلي أكثر قام بنقل اللفظة المفردة "روَّح" إلى صيغة الجمع في العربية (رياح).
كذلك، يترجم الفيومي العبارة التوراتية "فيومير إلوهيم" (التكوين 1: 3، 6، 9، 11، 14، 20، 24): "شاء الله"، علمًا أن الترجمة الحرفية كانت يجب أن تكون "وقال الله". يسعى الفيومي من خلال هذه الترجمة إلى تفادي التساؤل الإشكالي: مَن خاطب الله في هذه العبارة؟ وهو السؤال الذي يظهر في معرض الجدل مع المسيحيّين حول عقيدة الثالوث. وفق منهج الفيومي فإن الله لم يخلق في اليوم الأول أي مخلوق ناطق ليخاطبه، لهذا فقد نقلها إلى شاء بدل قال. كذلك يقول الفيومي إن ألفاظ توراتية كثيرة، على سبيل "أَمَر" و"عَسَه" و"قَرَه" (مثل التكوين 1: 3، 6، 7، 8، 9، 11، 14، 16)، مترادفة وتعني الأمر ذاته: المشيئة الإلهية، كما يخبرنا سفر المزامير "وربّنا في السماء كلّ ما أراده عمله" (المزامير 11: 3)، وكذلك ما يخبرنا به سفر أيوب "وما شاءت نفسه عملَ" (أيوب 23: 13).
كما واختار الفيومي نقل العبارة التوراتية "فَيَارْ إلوهيم" (حرفيًا تعني: ويرى الله) (كما جاء في التكوين 1: 4, 12, 18, 25, 31 وغيرها): "فلمَّا (أو: لمَّا) عَلِمَ اللهُ"، وذلك لأن من شأن لفظة "فَيَارْ" العبرية أن تشير إلى عقيدة فاسدة مفادها أن لله أطراف وأعضاء كالعيون يرى من خلالها.
أما في المثال التالي، يضيف الفيومي كلمة في ترجمته لإحدى الجمل التوراتية وذلك لتفادي التشبيه والثالوث ونظرية الملاك الخالق (وهي نظرية قال بها بعض المفسّرين اليهود القرّائين وغيرهم في ذلك العصر لتفسير صيغة الجمع في عبارة إلوهيم وفي المخاطبة الواردة في الإصحاح الأول على سبيل: نعملُ - التكوين 1: 26). فقد نقل "وقال اللهُ نعملُ الإنسان على صورتنا كشبهنا، فيتسلّطون على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم، وعلى كل الأرض وعلى جميع الدبابات التي تدبُّ على الأرض. فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقهُ، ذكرًا وأنثى خلقهم" (التكوين 1: 26-27، ترجمة فاندايك والبستاني) على النحو التالي: "قال الله نصنعُ إنسانًا بصورتنا كشبهنا مُسلَّطًا، يستولون على سمك البحر وطائر السماء، والبهائم وجميع الأرض، وسائر الدبيب الداب على الأرض. فخلق الله آدم بصورته مُسلَّطًا (أو: بصورته الشريفة مُسلَّطًا) خلقَهُ، ذكرًا وأنثى خلقهما". وقد جاء في معرض تفسير الفيومي ما يلي: "وقد يحتجُّ النصارى بهذا القول لمذهبهم في التثليث وأنه لو كان الباري واحد ليس بذو (كذا) أقانيم لكان يقول: على صورتي كشبهي. فيقال لهم تقولون في هذه القصة ألفاظ (كذا) مجازية أم جميع ألفاظها محكمة؟ فإن قالوا إنها محكمة، لزمها (كذا) أن يقولون إن آدم على صورة الله على الحقيقة فيكون الباري على قولهم لحم ودم وعظام وغير ذلك، وهذا ما لا يقول به أحد" (Zucker, 1984, 51).
بداية، أضاف الفيومي كلمة مُسلَّطًا ليفيد تفسير معنى كلمتي "الصورة" و"الشبه" بين آدم والله وهو التسلّط. فوفق منهجه، لو لم يضف هذه الكلمة لكانت الترجمة الدقيقة أو الحرفية لتؤدّي بالقارئ إلى اعتقاد التشبيه والتجسيم. ثانيًا، قام الفيومي بتأويل حرف الواو الذي يظهر في بداية الكلمة التوراتية "يردو" (يستولون) على أنها واو العطف تفيد معنى الحال (واو الحال، أو ربما الواو التي تفيد الترتيب) تقوم بوظيفة التفسير (ويبدو أن فاندايك والبستاني كذلك قاموا بتفسير حرف الفاء في فيستولون على أنها حرف عطف يفيد الترتيب في الذكر بمعنى "عطف مفصّل على مجمل"، أو ربما أرادا فاء السببية)، جاءت لتوضيح ما جاء في الشطر الأول من الجملة. بعبارات أخرى، فإن ما جاء في الشطر الثاني للجملة يأتي لتفسير الشطر الأول (يُنظر كذلك ترجمته للتكوين 5: 1؛ 9: 6). وبعد أن قام الفيومي باستعراض التفسيرات المعروفة له لهذه الجملة التوراتية، استنتج بأن ما يراه مناسبًا في تفسير هذه الجملة هما تفسيرين اثنين فقط: "أحدهما أن يكون معنى بتسلمينو كدموتينو وكذاك بتسيلم إلوهيم على سبيل التخصيص والتشريف، وذلك كما أنه خلق جميع أجزاء الأرض فشرَّف منها أرضًا واحدًا (كذا) وقال عنها هذه أرضي .... كذاك الصور كلّها فاختصّ منها بصورة واحدة قال هذه صورتي. ... والثانية، هو الذي أثبتته التورية [...] أن آدم في صورة الله وشبهه من باب التسلُّط والتملُّك لا من التخطيط والتشبيه. وذلك على ما يقال فلان اليوم في صورة عالِم وفلان اليوم في صورة كافر وليس يريد به صورة الجسم وإنما يريد المنزلة والمرتبة. فجعل الله آدم من بين جميع الأشياء في منزلته سلطان على الكل مُمكَّن كما أنه [الله] جلّ وعزّ السلطان على الكل. يؤكّد ذلك قوله ‘يستولون على سمك البحر’. فاعلم أنه يشبهه في باب ‘يستولون’ دون غيره. وعلى ذلك يقول داود ‘وسلَّطتَهُ من خلائقك على كل من جعلته تحت قدمه’ (المزامير 8: 7، ترجمة الفيومي)، وكان قد تقدَّمه قوله حتّى إنَّما نقَّصتَهُ من رتبة إلوهيم قليلاً’ (المزامير 8: 6) أنه نقَّصه الخَلقَ والإبداع وما شاكل ذلك" (Zucker, 1984, 53). وقد أوضحت في مكان آخر، أن هذا التفسير مستمدّ من تراث سرياني قديم يبدأ من إفرام السرياني (ت. 373م تقريبًا) وصولاً إلى موشي بار كيفا (ت. 911م) (Bashir, 2015).
ربما لم يرَ الفيومي نفسه ثوريًا، ولكن مساعيه لإعادة صياغة العقيدة اليهودية وإعادة بناء التراث اليهودي من جديد تجعل منه شخصية ثورية بكل المقاييس، كما يتفق العديد من الباحثين المعاصرين؛ بينما يرى البعض الآخر أنه بالرغم من جميع مساعيه هذه فإنه لم يشذّ عن التراث اليهودي كما كان مفهومًا في عصره. وفي جميع الحالات، فممّا لا شك فيه أنه سعى إلى استغلال أهم الإنجازات العلمية والفلسفية والتفكير العقلاني في عصره لفرض تحوّلات جذرية، كما يرى أصحاب التوجّه الأول، في الفكر والتراث اليهودي. وكما يؤكّد الفيومي في عدة أماكن في مصنّفاته العديدة، فإن الآداب اليهودية التقليدية - باصطلاحاتها ومفاهيمها وأطرها الفكرية وفهمها للعهد القديم - لا يمكنها أن تتماشى مع روح عصره واحتياجات رعاياه الذين أصبحوا أكثر وعيًا بالوسط الثقافي المحيط بهم، وحاولوا جاهدين الاندماج فيه مع الحفاظ على عقائدهم الدينية.
لقد احتلّ علم الكلام مكانة مرموقة في الفضاء الفكري في القرن العاشر، ولهذا السبب فقد تبنّى الفيومي أكثر مدارس علم الكلام عقلانية، أعني المعتزلة، وبالرغم من ذلك فإنه لم يرَ لزامًا عليه أن يكون وفيًا لها ولا أن يكون صارمًا في تبنيه لها. نتيجة لذلك، فقد سمح الفيومي لنفسه الشذوذ عن بعض المفاهيم أو المعتقدات السائدة بين المعتزلة، ولكنه ابتعد كما يبدو عن الشذوذ عن أصولها. ويبدو فعلاً أن الفيومي كان متكلمًا أو معتزليًا في العديد من المستويات، وسعى إلى ترويض أدوات المعتزلة لتلبي الاحتياجات اليهودية التي يسعى إلى إعادة بنائها. ويمكننا أن نفهم شذوذه هذا بوصفه نابعًا من إدراكه حقيقة أن لكل ملّة أو عقيدة احتياجاتها الخاصة، ولهذا فإن الاحتياجات اليهودية لا تتفق بالضرورة مع الاحتياجات الإسلامية أو المسيحية. على سبيل المثل، أسوة بغالبية المتكلمين اليهود، رفض الفيومي النظرية الذرية التي تقوم في صلب فيزياء علم الكلام. كذلك، فقد شذّ الفيومي بصور واضحة عن الإجماع السائد بين المعتزلة بكل ما يتعلّق بمكانة الملائكة قياسًا بمكانة الإنسان. جاء في معرض شرحه لتوجّهه أن الإنسان هو أسمى مخلوقات الباري قياسًا بجميع المخلوقات الأخرى بما في ذلك الملائكة. ومن هنا، فإنه يمكننا اعتبار الفيومي أول أديب يهودي في ذلك العصر، وأعني هنا كلمة أديب الكلمة المرادفة للفظ Paideia التي نقلها كيكرو (المعروف بشيشرون) (Cicero) في القرن الأول للميلاد عن اليونانية إلى humanitas باللاتينية وتوطّنت في مطلع العصر الحديث في اللغات الأوروبية. وخلافًا لما يمكننا أن نظنه، فإن توجّه الفيومي هذا لا يقوم على مزايا الطبيعة البشرية، أو خاصية العقل لدى الإنسان، ولا أن الله يحب الإنسان أكثر من جميع المخلوقات الأخرى، ولا لأن الإنسان يحمل رسالة معينة للخليقة، كما اعتقد العديد في عصره من مسلمين ومسيحيّين ويهود، بل لأن الإنسان هو محور الخليقة وقطبه وهو العلّة التي من أجلها خلق الله الخليقة برمّتها، السماوية والأرضية على السواء. وخلافًا لهذا التوجّه، فإن السائد بين المعتزلة أن الملائكة هم أنفس طاهرة وروحانية ومقدّسة وأن وظيفتهم هي تأدية الرسائل الإلهية، وهي الوظيفة التي تعتبر إسلاميًا مركزية جدًا أكثر بكثير من مركزيتها في اليهودية والمسيحية. ينبع هذا الاختلاف بشأن أهمية وظيفة الملائكة من اختلاف الوظيفة الموكلة للملائكة في الإسلام واليهودية والمسيحية. بحسب المعتقد الإسلامي، فإن الملاك هو الوحي، هو حامل الرسالة نفسها (القرآن بكافة كلماته وآياته وسوره) التي ينظر إليها إسلاميًا على أنها كلام الله إلى البشر. لهذا، فإن مصداقية الملاك، وجميع ما يتضمّنه ذلك من تأدية الرسالة بأمانة من دون إضافة ولا نقصان ولا تأويل ولا تحريف، يعتبر حجر الزاوية في المعتقد الإسلامي. لذلك، فإن من شأن أي تشكيك بأمانة الملاك أن يزعزع المعتقد الإسلامي في النبوة والكتاب المقدس. لذا، نشهد أن التوجّه السائد بين المعتزلة يؤكّد على المكانة الرفيعة المطلقة للملائكة، ومن هنا تكون مكانة الإنسان بالضرورة أدنى من مكانة الملائكة لأن الإنسان خطّاء بطبيعته. في مقابل ذلك، لا تولي اليهودية أهمية محورية لدور الملائكة في تأدية الرسالة، وذلك ببساطة لأن المعتقد اليهودي السائد منذ ذلك الحين وحتى عصرنا الحالي يقول بأن الرسالة قد أدّاها الله بنفسه لموسى من دون أي وسيط ملائكي أو آخر، وذلك خلافًا لما كان سائدًا في مضى (حتى نشوء المسيحية) بأن الرسالة التوراتية قد أداها ملاك (أو طائفة من الملائكة لموسى) كما تشهد مخطوطات البحر الميت وبعض الكتب غير القانونية إضافة إلى الأناجيل. أما المسيحية فإنها لا تولي أي دور للملائكة في تأدية الرسالة، لأنه حسب المعتقد المسيحي (بعض الطوائف والفرق)، فإن الله بنفسه نزل إلى الأرض ولم تكن حاجة لبعث ملائكة في هذا الشأن. إلا أنه قد أوكلت للملائكة مهام أخرى في المسيحية ولكنها غير محورية في موضوع الرسالة. أما المثال الأخير الذي يسلّط الضوء على اختلاف الاحتياجات في الإسلام واليهودية، فيتلخّص في مكانة مرتكب الفواحش ومرتكب الكبيرة، وهي مسألة مركزية في المعتزلة وتقع ضمن أصولها الخمسة، بينما يرى الكلام اليهودي أن هذه المسألة خاضعة للتراث الفقهي التشريعي الذي طوّره الحاخامات على مر السنين، ويتم مناقشة كل حالة على حدة وأنها ليست مسألة عقدية.
أكّدت المعتزلة على أن جميع القيم والمعايير الأخلاقية موضوعية إذ أنه يمكننا ببساطة الوصول إليها عبر استخدام عقولنا البشرية، وأصرّوا على أن هذه القيم والمعايير ذاتها تسري على الإنسان وعلى الخالق على حدّ سواء، وهو التوجّه ذاته الذي يؤكّد عليه الفيومي في مختلف مصنّفاته. خلافًا لهذا التوجّه، أكّد الأشاعرة أن المعيار الوحيد للتمييز بين الخير والشر ليس هو العقل البشري، وإنما الشرائع التي أنزلها الله، من أوامر ووصايا وتحريمات. فإذا حرّم الله شيئًا فهو الشر، وإذا حلّل شيئًا فهو الخير، ومن نافل القول إن الطرح الأشعري هذا إنما هو الطرح التقليدي لأهل الحديث. نشهد أن المتكلمين اليهود عمومًا قد تبنّوا الطرح المعتزلي ورفضوا الطرح الأشعري. لا يعني هذا أن الحكماء والعلماء اليهود لم يتبنّوا نفس الطرح الذي أشار إليه الأشاعرة، بل العكس هو الصحيح، فإن الربانيّين والقرّائين على السواء حملوا هذا الطرح قرونًا قبل أن يقوم الأشاعرة بصياغته، ولكننا نعني هنا المفكّرين اليهود المعرّفين بالمتكلمين تحديدًا.
خلافًا للمعتزلة، فقد أكّد الأشاعرة على مسألة القضاء والقدر وبأن الإنسان لا يمكنه تغييره. ونشهد كذلك في هذه الحالة أن جلّ المتكلمين اليهود، يتقدّمهم الفيومي، قد تبنّوا طرح المعتزلة بأن الإنسان وحده يحدّد واقعه عبر القرارات التي يتخذها في حياته. على سبيل المثال، فإن هاي غؤون (نشط في النصف الأول من القرن الحادي عشر في بغداد)، الرئيس الأخير للمدرسة الدينية فومبديتا (الفلوجة العراقية حاليًا) التي انتقلت قبل قرن ونيف إلى بغداد، يؤكّد بصورة جلية على تبنّيه الطرح المعتزلي إذ يرى بأن هناك علاقة وطيدة بين سلوك الإنسان وبين واقعه ومصيره بالرغم من عدم قدرتنا كبشر الكشف عن تفاصيل هذه العلاقة.
قام المفكّر اليهودي الديّان بحيا إبن بقودا يحيى بن باقودا (نشط في سرقسطة الإسلامية في النصف الثاني للقرن الحادي عشر) بوضع مصنّفه الصوفي "كتاب الهداية إلى فرائض القلوب" ورتّب أبوابه وفق الترتيب الكلامي السائد. برغم من حقيقة أن ابن بقودا ليس معنيًا بطرح المقولات بصورة عقلانية، إلاّ أنه تبنّى تعريف ومكانة العقل المعتزلي بوصفه "منحة إلهية" وبأنه يهذّب العالم الداخلي الروحاني للمؤمن. ومع ذلك، فإنه يستخدم على طول مصنفه هذه الاصطلاحات الصوفية والقول إن الغاية القصوى للمؤمن هو اتحاد نفسه مع خالقه.
نشهد أن الحقبة التي أعقبت الفيومي اتّسمت كذلك بوقوف شخصيات فكرية دينية لامعة اعتمدت علم الكلام منهجًا لها على رأس المدارس الدينية اليهودية المركزية للربانيّين، مثل هاي غاؤون السابق وصموئيل بن حفني غاؤون (ت. 1013م، بغداد)، كلاهما من أعظم القيادات اليهودية في ذلك العصر إضافة إلى سلطتهما على صعيد الشريعة والتشريع واتباعهما منهجية الفيومي في تفسير النص التوراتي. لقد تبنّى صموئيل بن حفني ركائز وأصول مدرسة البصرة في الاعتزال، ووضع عدة مصنّفات في علم الكلام، منها "كتاب الهداية" وهو كتاب حول منهج المعتزلة ويشمل مئة باب. سعى بن حفني توسيع نطاق التفسير العقلاني وأكّد على أحد المبادئ الهامة في هذا الاتجاه مفاده أن المعيار المركزي لقبول أو رفض أمور دينية أو أخرى هي قبوله للعقل أو عدم ذلك:
"فنقول إن ربّ العالمين هو عالِم الغيوب المنفرد بعلمها لا يعلمها إلا هو ومن يعلمه إياها من أنبائه ورسله فمن ادعى علم ذلك أو ادعى له من غير هذا الوجه فقد علمنا بطلانه وقد قال تعالى لملك مصر ‘أين حكماؤك الآن فيخبروك هل يعلمون ما قدر رب الجيوش على مصر؟’ [إشعياء 19: 12]. ولا يجوز أن نعتقد صحّة ما قد دلّ الدليل على فساده لأن بعض القدماء قاله، بل يجب أن نعتبر ذلك بالنظر، فما دلّ الدليل على وجوب قبوله قبلناه، وما دلّ على جوازه جوّزناه، وعلى منعه منعناه". وأكّد في سياق آخر: "إن كلام الأوائل إذا ردّه العقل لم يلزمنا قبوله". وجاء في معرض تناوله قصّة متداولة في الأدبيات اليهودية ومصدرها سفر صموئيل الأول (الإصحاح 28) مفادها أن شاول ذهب إلى امرأة صاحبة جان وهي استحضرت له الملك صموئيل الذي كان ميتًا، وتحدث معه شاول واستشاره بشأن الحرب مع الفلستيّين. وقد عقّب بن حفني على ذلك أن قال يجب تفسير هذه القصّة التوراتية على نحو معقول بحيث يكون المعنى أن خدعة رؤيته لطيف صموئيل قد انطوت على شاول (يُنظر Sklare, 1996، ص 41، 42، الحاشيتان 12، 13؛ يُنظر كذلك Cohen, 2011, 51-52).
أما في الأندلس، من الهام بمكان الإشارة إلى أن علم الكلام بصورة عامة، والاعتزال بصورة خاصة، لم يجد له موطئ قدم هناك. بالرغم من ذلك، فقد تعاملت العديد من الشخصيات الفكرية والدينية اليهودية هناك مع عدة مواد كلامية، مثل أبو الحسن يهودا اللاوي (ت. 1141م) ويوسف ابن صديق (ت. 1149م) وموسى بن ميمون (ت. 1204م، قرطبة والقاهرة)، لا بل وقاموا بدمج بعض المواد الكلامية في نقاشاتهم ومصنّفاتهم وتأثروا كثيرًا للإيجاب والسلب بمصنّفات الفيومي ومنهجه في التفسير. أما بخصوص شمال إفريقيا، فلا نشهد أن الكلام قد ترك آثارًا بالغة على السكان اليهود هناك، علمًا بأن علم الكلام عمومًا والكلام المعتزلي خصوصًا، كان منتشرًا بين المسلمين هناك عبر فرقة الإباضية.
ما هي حاجة اليهود إلى علم الكلام؟
لقد ظهر على مدار فترات طويلة التساؤل حول الدوافع التي وقفت وراء لجوء العديد من العلماء ورجال الدين اليهود في القرون الوسطى إلى تبنّي أصول علم الكلام ومنهجه واصطلاحاته في مصنّفاتهم. يطلعنا موسى بن ميمون على تفسير تاريخي بسيط وسطحي (ظهر في مصنّفه دلالة الحائرين، القسم الأول، الفصل 71)، مفاده أن مناقشة أوائل المسلمين مع الفلاسفة واللاهوتيّين المسيحيّين قد دفعت بالمسلمين إلى تطوير علم الكلام الإسلامي، تمامًا كما جرى مع المسيحيّين الأوائل حين ناقشوا الفلاسفة الوثنيّين ووجدوا أنفسهم مضطرين إلى استخدام التراث الفلسفي ذاته للدفاع عن عقيدتهم. يعرض بن ميمون علم الكلام بوصفه تضليلاً لا يسعى فعلاً إلى الكشف عن الحقائق بل إلى الدفاع عن عقائد أهل الكلام، وذلك من خلال استخدامهم التقنيات والعناصر، وربما الاصطلاحات الفلسفية كذلك أحيانًا. وعلى هذا الصعيد، يقوم بن ميمون باقتباس الفيلسوف اليوناني ثامسطيوس (ت. 390م) لوصف منهجية أهل الكلام فيقول إن الوجود ليس "تابعًا للآراء، بل الآراء الصحيحة تابعة للوجود" (دلالة الحائرين، ج1، الفصل 71). بعبارات أخرى، يرى بن ميمون بعلم الكلام محاولة للتحايل على الحقيقة بغية تعزيز أهواء وآراء وعقائد معينة. أما بخصوص نشوء علم الكلام اليهودي، يرى بن ميمون أن المتكلمين اليهود، الربانيّين والقرّائين على حد سواء، ذهبوا في السبيل الذي خطّه أهل الكلام المسيحيّين بداية وبعدهم المسلمين. وفق ما جاء عن بن ميمون، فإن اليهود قد تبنّوا أول عهدهم في الإسلام المعتزلة لمجرد أنها كانت أول فرقة فكرية ظهرت في دار الإسلام.
في مقابل ذلك، يحاجج بعض الباحثين (وبصورة رئيسة الباحثة رينا دروري) بأن القرّائين بعد انسلاخهم عن التراث اليهودي وابتعادهم عن السلطة الدينية الربانية وجدوا أنفسهم أمام فراغ أدبي كبير. ونتيجة لذلك، فقد كانوا على استعداد أكبر لتبنّي أنواع أدبية جديدة، كآداب العقائد والفقه والأصول والتفسير والمنهجية التي وضعها أوائل المتكلمين المسلمين. يتضح وفق هذا الطرح، أن الصراع مع القرّائين قد دفع بالربانيّين إلى ضرورة دخولهم الحقول الفكرية والأدبية الناشئة بغية مواجهتهم. كذلك، هناك تفسير إضافي مفاده أن العلماء والمثقفين اليهود قد وجدوا ضرورة قصوى منذ القرن التاسع للميلاد، كما ذكرنا أعلاه، لإعادة صياغة وتشكيل المعتقدات اليهودية الدينية على أسس عقلانية ومنهجية جديدة، وذلك من خلال الاستناد بصورة حصرية إلى الكتاب المقدّس (العهد القديم) والعقل على أن يخضع الكتاب إلى سلطة العقل. وبالطبع هناك العديد من المتكلمين اليهود الذي قاموا بعكس ذلك، أعني إخضاع العقل لسلطة الكتاب، كتبريرهم لما جاء في الكتاب تبريرًا عقلانيًا. ظهرت هذه الحاجة إلى تبنّي الكلام لأسباب اجتماعية دينية، إذ نشهد أن العلوم الإسلامية الجديدة التي ظهرت منذ القرن التاسع قد أفضت إلى زعزعة كبيرة بين أوساط عامة وخاصة اليهود، ما أفضى إلى اندثار السلطة الدينية وضرورة إجراء إصلاحات بالغة على صعيد الفكر الديني. وقد كان علم الكلام عمومًا، والمعتزلة خصوصًا، أفضل أداة لتحقيق هذا الغرض، وذلك لأن المعتزلة كانت سائدة جدًا بين طبقات المثقفين وأكثر الفرق إقناعًا لمختلف الملل لاستنادها إلى العقل الذي يعتبر أكبر قاسم مشترك بين مختلف العقائد والملل. وبهذا المعنى يمكننا القول إن الكلام الاعتزالي طغى على مشهد الفكر الديني اليهودي في أكبر وأهم مركز للسلطة الدينية اليهودية في حينه (بغداد خصوصًا) حتى القرن الرابع عشر تقريبًا.
وفي الختام ننوّه إلى أنه بينما شعر العلماء المسلمين العقلانيّين أنفسهم، منذ القرن العاشر على أقل تقدير، أنهم مضطرون إلى الدفاع عن أنفسهم وفكرهم ومعتقداتهم في وجه المؤسّسة الدينية المتشكّلة أساسًا من أهل الحديث والأشاعرة، فإننا نلاحظ أن خلاف ذلك كان سائدًا بين اليهود المقيمين ضمن الحضارة العربية والإسلامية في العصور الوسطى، إذ نشهد أن المؤسّسة الدينية اليهودية تحوّلت منذ الفيومي إلى مركز التفكير الديني العقلاني ووجد التقليديون اليهود أنفسهم في موقع الدفاع عن النفس، إلى أن انتقل المركز الثقافي اليهودي من الحواضر الإسلامية إلى البلدان الأوروبية منذ القرن الرابع عشر للميلاد حيث استولى التقليديون هناك على هذا المركز.
بيبليوغرافيا
فارس عثمان نوفل. معمَّر بن عبَّاد السُّلمي وآراؤه الكلامية الفلسفية، بيروت: دار الفارابي، 2015.
داود بن مروان المقمّص. عشرون مقالة، تحرير ساره سترومزا، بروفو، يوتا: دار النشر التابعة لجامعة بريغام يونغ، 2016.
عمّار البصري. كتاب البرهان وكتاب المسائل والأجوبة، تحقيق ميشال حايك، بيروت: دار المشرق، 1986.
أبو منصور محمد الماتريدي. كتاب التوحيد، ط1، تحقيق بكر طوبال أوغلي ومحمد آروشي، بيروت وإستانبول: دار صادر ومكتبة الإرشاد، 2007.
موسى بن ميمون. دلالة الحائرين، تحقيق حسين اتاى، أنقرة: جامعة أنقرة، 1972.
سعيد البوسكلاوي. "يحيى النحوي والمعتزلة الأوائل في أدلة حدوث العالم،" في: قضايا كلامية وسياسية في الفكر الاعتزالي (سلسلة الفكر النقدي في الإسلام: المعتزلة أنموذجًا – 1)، إعداد مجموعة من الباحثين، الرباط: مؤسّسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، ص 115-191.
al-Muqammaṣ, Dāwūd. Twenty Chapters, S. Stroumsa (ed.), Provo, Utah: Brigham Young University Press, 2015.
Adang, C.; S. Schmidtke and D. Sklare (eds.). A Common Rationality: Mu’tazilism in Islam and Judaism, Würzburg: Ergon Verlag in Kommission, 2007.
Aptowitzer, V. "La création de l’homme d’aprés les anciens interprétes," Revue des Études Juives, vol. 65, 1922, pp. 1-15.
Bashir, N. "Angelology and Theological Humanism in the Thought and Exegesis of Saadia Gaon The Human Being as the Purpose of the Creation," Thesis submitted in partial fulfillment of the requirements for the degree of Doctor of Philosophy, Ben-Gurion University of the Negev, 2015. [Hebrew]
Ben Shammai, H. “Major Trends in Karaite Philosophy and Polemics in the Tenth and Eleventh Centuries,” M. Poliack (ed.), Karaite Judaism – A Guide to Its History and Literary Sources, Leiden and Boston: Brill, 2003, pp. 339-362.
Ben-Shammai, H. “The Tension Between Literal Interpretation and Exegetical Freedom,” J. D. McAuliffe, B. D. Walfish and J. W. Goering (eds.), With Reverence for the Word: Scriptural Exegesis in Judaism, Christianity, and Islam, Oxford: Oxford University Press, 2003, pp. 33–50.
Ben-Shammai, H. “kalām in Medieval Jewish Philosophy,” D. H. Frank ad O. Leaman (eds.), History of Jewish Philosophy, London and New York: Routledge, 1997, pp. 91-117.
Ben-Shammai, H. “The Doctrines of Religious Thought Abu Yusuf Yaaqub al-Qirqisani and Yefet ben ’Eli" (2 vols.), Dissertation, The Hebrew University, Jerusalem 1977. [Hebrew]
Cohen, M. Z. Opening the Gates of Interpretation: Maimonides’ Biblical Hermeneutics in Light of His Geonic-Andalusian Heritage and Muslim Milieu, Leiden and Boston: Brill, 2011.
Drory, R. Models and Contacts – Arabic Literature and its Impact on Medieval Jewish Culture, Leiden: Brill, 2000.
Ess, J. van, Zwischen Ḥadīṯ und Theologie: Studien zum Entstehen prädestinatianischer Überlieferung (Berlin and New York: De Gruyter, 1975).
Ess, J. van, “L’autorité de la tradition prophétique dans la théologie muʿtazilite,” in G. Makdisi et al. (eds.), La notion d’autorité au Moyen Age: Islam, Byzance, Occident, Paris: Presses universitaires de France, 1982, pp. 211–26.
Hughes, A. W. "Theology: The Articulation of Orthodoxy," J. Meri (ed.), The Routledge Handbook of Muslim-Jewish Relations, New York: Routledge, 2016, pp. 77-94.
Kraemer, J. L. “The Islamic Context of Medieval Jewish Philosophy,” D. Frank and O. Leaman (eds.), The Cambridge Companion to Medieval Jewish Philosophy. Cambridge: Cambridge University Press, 2003, pp. 38–70.
Madelung, W. and S. Schmidtke, "Yūsuf al-Baṣīr’s First Refutation (Naqḍ) of Abu l-Ḥusayn al-Baṣrī’s Theology," C. Adang, S. Schmidtke and D. Sklare (eds.), A Common Rationality: Muʿtazilism in Islam and Judaism, Würzburg: Ergon Verlag in Kommission, 2007, pp. 229-296.
Madelung, W. and S. Schmidtke (eds.). Rational Theology in Interfaith Communication Abu-I-Husayn al-Basri’s Mu’tazili Theology among the Karaites in the Fatimid Age, Leiden: Brill, 2007.
Maimonides, The Guide for the Perplexed, translated by Shlomo Pines, Chicago, IL: University of Chicago Press, 1963.
Nemoy, L. (tr.) (1976) “The Pseudo-Qumisian Sermon to the Karaites,” Proceedings of the American Academy for Jewish Research, vol. 43, 1976, pp. 49–105.
el-Omari, Racha. "Accommodation and Resistance- Classical Mu’tazilites on Ḥadīth," Journal of Near Eastern Studies, vol. 71, 2012, pp. 213-256.
Qirqisānī, Ya’qūb. Kitāb al-Anwār wal-marāqib,. Yaʿqūb al-Qirqisānī. Kitāb al-Anwār wal-marāqib - Code of Karaite Law (5 vols.), L. Nemoy (ed.), New York: Alexander Kohut Memorial Foundation, 1938-1943.
Polliack, M. "Major Trends in Karaite Biblical Exegesis in the Tenth and Eleventh Centuries", in M. Polliack (ed.), Karaite Judaism: A Guide to Its History and Literary Sources, Leiden: Brill, 2003, pp. 363-413.
Revel, B. “Inquiry into the Sources of Karaite Halakah,” Jewish Quarterly Review, vol. 2, 1912, pp. 337-396 and vol. 3, 1913, pp. 517-544.
Revel, B. The Karaite Halakah and Its Relation to Saduccean, Samaritan and Philonian Halakah (Jerusalem, 1970; reprinted of the edition: Philadelphia: Press of Cahan printing co., 1913).
Schmidtke, S. (ed.), The Oxford Handbook of Islamic Theology, Oxford: Oxford University Press, 2016.
Schreiner, M. "Der Kalâm in der jüdischen Literatur," Bericht über die Lehranstalt für die Wissenschaft des Judenthums in Berlin 13, Berlin: H. Itzkowski, 1895, pp. 1-67 (Reprinted in idem, Gesammelte Schriften. Islamische und jüdisch-islamische Studien. Herausgegeben und eingeleitet von Moshe Perlmann, Hildesheim 1983, pp. 280-346).
Sirat, C. A History of Jewish Philosophy in the Middle Ages, Paris and Cambridge: Maison des Sciences de I’Homme and Cambridge University Press, 1985 (Originally: Colette Sirat, La philosophie juive au Moyen Age: selon les textes manuscrits et imprimes, Paris: Editions du Centre national de la recherche scientifique, 1983).
Sklare, D. “Science and Biblical Exegesis in the Tenth Century: Yaʿqūb al-Qirqisānī’s Tafsīr Bereshit,” Ginzei Qedem (Genizah Research Annual), vol. 14, 2018, pp. 67-88. [Hebrew]
Sklare, D. "Responses to Islamic Polemics by Jewish Mutakallimūn in the Tenth Century," H. Lazarus-Yafeh, M. R. Cohen, S. Somekh, and S. H. Griffith (eds.), The Majlis: Interreligious Encounters in Medieval Islam, Wiesbaden: Harrassowitz Verlag, 1999, pp. 137-61.
Sklare, D. Samuel Ben Ḥofni Gaon and His Cultural World: Texts and Studies, Leiden: Brill. 1996.
Sklare, D. "Yūsuf al-Baṣīr: Theological Aspects of His Halakhic Works," D. Frank (ed.), The Jews of Medieval Islam: Community, Society, and Identity, Leiden 1995, pp. 249-70.
Stroumsa, S. "The Muslim Context of Medieval Jewish Philosophy," S. Nadler and T. M. Rudavsky (eds.), The Cambridge History of Jewish Philosophy: From Antiquity Through the Seventeenth Century, New York: Cambridge University Press, 2009, pp. 39-59.
Stroumsa, S. "Saadya and Jewish kalām," D. Frank and O. Leaman (eds.), The Cambridge Companion to Medieval Jewish Philosophy. Cambridge: Cambridge University Press, 2003, pp. 71–90.
Vajda, G. "Le «kalām» dans la pensée religieuse juive du Moyen Age," Revue de l’histoire des religions, tome 183, n°2, 1973, pp. 143-160.
van Ess, J. "L’autorité de la tradition prophétique dans la théologie mu’tazilite," G. Makdisi, D. Sourdel and J. Soudel-Thomine (eds.), La notion d’autorité au Moyen Age Islam, Byzance, Occident, Paris: Presses Universitaires de France, 1982, pp. 211-226.
van Ess, J. Zwischen Hadith und Theologie: Studien zum Entstehen Prädestinatianischer Überlieferung, Berlin and New York: de Gruyter, 1975.
Wolfson, H. A. Repercussions of the kalam in Jewish Philosophy, Cambridge, MA: Harvard University Press, 1979.
Zucker, M. Saadya’s Commentary on Genesis, New York: The Jewish Theological Seminary of America, 1984. [Hebrew]