الصفحة الأساسية > العربية > ج > جمهورية الآداب

جمهورية الآداب

كل اصدارات هذا المقال: [عربي] [français]


على الرغم من الانقسام الذي خلفته الاصلاحات داخل الكنيسة إلا أن النخبة المثقفة المسيحية اللاتينية استمرت في انتمائها الى نفس الثقافة، بقطبيها السكولائي والانساني، والى ما تنتجه كل من التعاليم الكاثوليكية والبروتستانتية سواء: في المدارس أو بتعليم اللاتينية والخطابة، في الجامعات، او فيما يتعلق بالتيولوجيا، الفلسفة، الطب والقانون، الذين تم شرحهم من طرف القدماء، خطباء، مؤرخين وشعراء. خريجوا هذه المؤسسات من كل اوروبا، يكرسون انفسهم للآداب بعد نهاية تعليمهم، يميزهم الانتماء الى جمهورية الآداب التي توحدها الاداب الجميلة، والوعي بالخصوصية الذي بدأ منذ العشرية الأولى من القرن الخامس عشر. لغتهم اللاتينية مكنتهم من تبادل الرسائل بينهم، المحاورات أثناء الالتقاء في السفر، قراءة نفس الكتب التي ألفها المفكرون الكبار: ألد مانيوس Alde Manuce في البندقية، شخصية سيتواصل تأثيرها طويلا حتى بعد وفاته، أبرباش Aberbach وفروبن Froben من بال، بلاتن Platin من أنتويرب ( بلجيكا)، بالاضافة الى مجموعة اخرى في باريس Paris، ليون Lyon ديفنتر Deventer، كراكوفي Cracovie، كولوني أوغسبورغ Cologne Augsbourg. إيراسم Erasme الشخصية الأساسية وبطل وقدوتها العليا في جمهورية الآداب، جعل من بال مدينته مركزا عالميا للافكار الانسانية. فقدت هذه الميزة فور وفاته بعد عشرات السنين.

 باريس عاصمة للثقافة الأوروبية

بعد انتهاء الحرب الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت في فرنسا وتحرير منشور نانت Nantes الذي سمح بالتعايش السلمي بين المذهبين، اصبحت باريس مرة اخرى العاصمة الثقافية لأوروبا. مستوى الحرية فيها لا يضاهي ذلك كانت تتمتع به الضواحي متحدة. دون أن نتحدث عن اسبانيا، اذ لا تقارن بالحال في إيطاليا، والبندقية، أو في جنيف. في حين الوضع أكثر هدوءا إذا ما قورن بألمانيا التي تعاني تحت وطأت الحرب. بالاضافة إلى ازدهار الابحاث العلمية في مختلف المجالات: علوم التاريخ المقدس والدنيوي، الرياضيات، الفلسفة. وبهذا تكون جمهورية الآداب قد تمكنت من تحصيل تفوق في Respublica Litteraria . إذا كانت اللغة اللاتينية هي لغة التواصل العالمية فإن اللغة الفرنسية قد بدأت تأخذ مكانا لها مع مرور الوقت، لأنها كانت مركز تتقاطع فيه كل المراسلات العلمية الخاصة بالعلماء الاوروربيين، هذا ما سيسهل خلق حلقات علمية صغيرة في باقي الضواحي: آكس اونبروفانس، ديجون، تراوح هذا حسب الحقب التاريخية ظهورا واختفاءً. بينما استمرت باريس في استقبال العلماء الذين كان يطول بقاؤهم فيها لسنوات عديدة.

شهدت نهاية القرن السابع عشر نهاية للحرةي الدينية التي عرفتها فرنسا اثر قرار اصدره لويس الرابع عشر، على اثره نزح البروتستانت الفرنسيون في الامرارات المتحدة في بريطانيا، في بروسيا، وفي المماليك الاسكندنافية. لم تكن هؤلاء هم أوَّل المهاجرون، بل سبقهم غيرهم باعداد كبيرة في القرن السادس عشر. وفي العشرينيات والثلاثينيات من القرن السابع عشر عرفت هجرة التشيك على راسهم كومنيوس، لتبدأ بعدها موجة الهجرة في مجموعات صغيرة لكنها نشيطة جدا فكريا، سوسينيون طردوامن بولونيا في نهاية الخمسينيات. لكن البروتستانت الفرنسيين الذين غادروا فرنسا تفوقوا على غيرهم ممن سبقوهم بكثرة عددهم، ينتمي اغلبهم الى طبقة المثقفين. استفادوا من الوضع الفرنسي: بلاطها، قوة عسكرها، وحياتها الثقافية. انخرط البروتستانت الوافدون في النخب الخاصة في البلدان المستضيفة لهم: علماء، رجال اعمال، اصحاب بنوك، أو جنود، بحيث حملوا معهم اللغة والثقافة الفرنسيتين، كما حرضوا على خلق فضول علماء المقاطعات المستقبلة لهم لمعرفة الأخبار القادمة من باريس. أسس ناشرون ووراقون خاصة في الامارات المتحدة شبكة لتوزيع الكتاب والدوريات على المستوى الاوروربي، شبكة تتميز بسرعة طباعة ونشر وتوزيع النصوص التي لا توجد إلا عندهم، هذا الزخم الفكري أمدَّ جمهورية الآداب بعناصرها الاساسية. جاعلين من اللغة الفرنسية هي اللغة العاملية للنخبة المثقفة الاوروربية. إلى هذا الوسط الهجنوتي (اللاجئون الفرنسيون البروتيستانت) ينتمي بيار بايل Pierre Bayle الذي كان دوره في جمهورية الآداب شبيها بدور اراسم في Respublica Litteraria الاطالية، فقد كان منظرها وقاضيها. عمل على نشر وشرح فكرة الجمهورية ذاتها التي جعلت من هذه الاخيرة بلدا يعرف بــ: استقلالية الافراد في علاقتهم بكل ما هو خاص، صدفي وإجتماعي. مجتمع العقلاء، لا ينخرط فيه الفردالا بكامل ارادته، متجردا من رغباته وكل العلاقات التي تربطه بجماعته وبمختلف الجماعات الدينية أو الاجتماعية منذ ميلاده او التي تفرض عليه فيما بعد بفعل ظروف خارجية، من الاحسن القول أن مواطنوا جمهورية الآداب متساوون مهما كانت مكانتهم الإجتماعية، الفارق الوحيد المعترف به في هذه الجمهورية هو مساهمة الفرد في العمل المشترك. ويجدر القول كذلك أن الدخول إلى جمهورية الآداب، يعني بشكل ما التخلي عن الاعتقاد الديني والولاء للبلد الاصلي عند بابها والتجرد من كل تلك الحساسيات والانتماءات العالم، لشعبه، لعائلته، ويعيزون ذلك إلى الصدفة، الجزئي الخاص، والمحلي، على عكس العقل الذي يضمن وحده البعد العالمي، الضروري والكلي الشمولي. قيمة المؤلفات والاعمال تقاس فقط بمدى موافقتها للعقل، إذ يجب أن تحمل وجهة نظر مستقلة عن كل نظام مرجعيات خاص، سجي ان تكون موضوعية، إذا توفر هذين الشرطين فإن تلك المؤلفات تبلغ العالمية وتصبح مقبولة عند الجميع.

 نموذج عالمي: جمهورية آداب وفيلولوجيا

هذه الرؤية لجمهورية الآداب غير موجود في المجتمعات الواقعية، هذا مثالي، كبرنامج وكحلم في آن واحد. كما انها تثير في نفوس مؤمنين بها مشاعر الانتماء إلى جماعة خارجة عن الدولة أو معتقد متفوق، في اوروبا كنموذج للحياة الفكرية. منشئة بذلك مثالا اخلاقيا يحتكم اليه الافراد في تعاملاتهم وعلاقتهم مع بعض. محاولين إنشاء دساتير وقوانين تدافع على مصالح هذه الجماعة وتفعيل القيم داخلها. وإذا كان لابد من تقديم الدليل على احترام تلك القوانين في جمهورية الآداب فهذا دليل من بين أدلة أخرى: بما أنَّ الفرد ستكون عقلانيا فإن الخطاب والتعامل يكون مع عقلاء آخرين، الذين يجب عليهم أن يراقبوا كل توافق مع القانون فيقبلوه ومن خرج عنه رفضوه. مثلا اذا راسل كاثوليكي كالفانيا، لوثيريا، أو سوسانيا دون أن يتطرق الى الاختلافات أو يجادله او يذكر له المخالفين فهذا لأن الامر يتعلق هنا بفرد من أفراد جمهورية الآداب يراسل فردا آخر من نفس الجمهورية. بنفس الاعتقاد يساعد الافراد بعضهم البعض في الابحاث كما يفتحون لهم مكتباتهم او أديرة عملهم دون الاخذ بعين الاعتبار انتمائهم الديني او جنسيتهم. إن كنا لا نعلم إن كان هذا السلوك عاما أو لا في الاوساط العلمية، فإنه من المؤكد أن شعور الانتماء إلى نفس جمهورية الآداب انتج غالبا نتائج مماثلة.

تعزيزا للفكر الانساني، تضع جمهورية الآداب، الادب والفيلولوجيا التطبيقية للنصوص القديمة لكل المجالات: من الاساطير والخرافات الى الرياضيات. وابتداء من القرن السادس عشر بدأ ترتسم الملامح التي تفضلها جمهورية الآداب. اكتشاف العالم الجديد- امريكا- حرّك فضولا قويا لدى العلماء اتجاه الحيوانات التي تعيش فيه والنياتات التي لا تنمو إلا هناك، خاصة الاهتمام بالشعوب التي تسكنه، معتقداتها، أخلاقياتها، استعمالاتها، مملكتها. لتعطي روحا جديدة لأدب الرحلة الذي عشقه الناس منذ القرن الرابع عشر، بسرد العجائب التي لا تخلوا من المعاني الانتروبولوجية والفلسفية. ميلاد نوع أدبي جديد يوتوبيا توماس مور، في آن واحد هو: لعبة أنسنة، رحلة أدبية، الذي كان نقدا لانجليترا باسم الاخلاق المسيحية والتأملات الافلاطونية على مجتمع قار قادر على منح السعادة للافراد. ستزدهر في القرنين اللاحقين السابع عشر والثامن عشر.

في كتابات أدب الرحلة، بالاضافة إلى موضوع السفر نجد موضوعا آخر يشغل العصر هو السلطة، الدولة، القانون، يتعلق الامر خاصة بالسلطة التي لا تمتلك أي شرعية تقليدية إما لأنها انتقلت حديثا لحكام جدد -مثلما هو حال الامراء الايطاليين الجدد تحديدا المديتشي في فلورنسيا- أو لأنها تقوم على اساس من احداث تدابير داخل الدولة لم تكن من قبل وتغير بالتالي الدساتير القديمة والتي فضلا عن انها لم تكن دساتير مكتوبة فإنها لا تناقش مطلقا، فإنها تعتبر قانونا اساسيا، لا يمكن المساس به دون موافقة النخب الخاصة. أما المشكل الأساسي الذي يعترض تلك السلطة القائمة فإنه يتمحور حول الوسائل التي من خلالها يتم الحفاظ على استمرار السلطة لمدة أطول في ظل محيط سياسي تتحكم فيه الثروة، يعني من يملكون السلطة لا يمارسونها كليا. تطرق مكيافيلي الى هذا المشكل باعتباره خبيرا فلورنسيا في الحكم والامارة، ذو معرفة واسعة بايطاليا وأوروبا عصره، بالاضافة الى تشعبه في التاريخ الروماني. ليتفحص بعين-ذات نزعة طبيعية- الحلول المتاحة أمامه، متسائلا ليس عن كيفية احترام القوانين الاخلاقية والوصايا الدينية ولكن كيف نحصل على النتائج المنتظرة عمليا: أي كيف نحافظ على السلطة؟

سلطة سياسية مماثلة، مستقلة عن السلطة الدينية، تعرضت لاعتراضات عديدة، لفظ مكيافيلية ذو الإيحاء احتقاري أصبح متداولا منذ القرن السادس عشر في معظم اللغات الاوروربية. المقاربة المكيافيلية استعمل في التعبير عن العلاقات بين الدول كما في العلاقة بين الدولة ومحكوميها. في الشق الاول من مقاربته المتعلق بالعلاقات الدولية، أدخلت فكرة حاجة الدولة إلى تحديد مصالحها السيادية ابتداء من القرن السادس عشر- بغض النظر عن الدولة المسيحية التي سعت من خلال البابوية أن تعين نفسها حارسا على تلك الدول- والدفاع عنها من خلال اختيار الوسائل المناسبة لذلك بعيدا عن الدين وما يمنعه او يسمح به. في معالجة المقاربة الثانية (علاقة الدولة بالافراد) تطرح اسئلة حول حدود سلطة الدولة على الافراد المقررة بالقانون الطبيعي أو القانون الوضعي، وحلول هذه الاشكالية التي اعتبرها معارضوه نفعية، تبرر سلطانا لا تحدده القوانين، سلطة مطلقة. ولكنها مبررة أيضا من المنظور المسيحي. أي علاقة لهذه السلطة مع حكيم أو مع مثقف، لاستعمال لفظ مغلوط؟ الاجابة الغالبة هي بلا شك تلك التي نجدها في جمهورية الآداب تحديدا عند بايل Bayle - كما عند آخرين غيره- مقابلة الحكيم واحترامه للقوانين مع العامة واحكامها المسبقة، الرغبات والتعصب، الدولة عليها قمع هذه الاخيرة –العامة- من أجل منعها من احداث الاضطراب خاصة إذا كان الدافع دينيا، وتضمن للفئة الاخرى –الحكماء- حرية الوعي، شرط ان لا يتسبب في اضطراب النظام العام للدولة. بالتوافق مع الدرس المكيافيلي فإن الدولة ليس من شأنها خدمة الدين، انما دورها الاساسي هو ضمان الامن المدني.

بالعودة إلى عالم السياسة والقاء الضوء عليه، شرعت Respublica Litteraria (جمهورية الآداب الايطالية) في دراسة جديدة للطبيعة، لتواصلها جمهورية الآداب وتعمقها. تناقش في الاولى كما في الثانية، أفكار كوبرنيكوس، التي تتعارض مع أفكار الحس المشترك، مع فيزال Vesale وهارفي Harvey تشريح الجثث من اجل التعرف الى اناتوميا الجسد، القيام بتجارب في البصريات، فحص السماء والتعرف على عوالم الفلك، السعي لكشف قوانين حركة الكواكب مثل ما فعل كبلر Kepler ، وقانون سقوط الاجسام، الاهتمام بالجذب المغناطيسي، تصنيف الحيوانات، النباتات، والمعادن، حل القضايا الهندسية والجبرية، السرعة التعامل مع اكتشاف غاليلي Galilée لطريقة جديدة للوصول الى العلم الطبيعي: المعرفة بواسطة وسائل وآلات للملاحظة والقياس. نتائج هذه المعرفة لا تدع مجالا للوصف اللغوي للظواهر إنما تستدعي تطوير جهاز مفاهيمي خاص يرتكز اساسا على الرياضيات. دياكارت، لايبنتزن نيوتن وآخرون هم من سيقدمون لغة مماثلة الى الفيزياء الجديدة باحداث قطيعة مع العلم الطبيعي الارسطي، وتأسيس علم فلك جديد بالانفصال عن فلك بطليموس، هذه وتلك ما تزالا ساريتا المفعول إلى الآن.

لم يعرف العمل الفكري انتشارا عالميا كنشاة هذه العلوم بين غاليلي في بداية القرن السابع عشر ولابلاس Laplace نهاية القرن الثامن عشر، فقد وحدت بينها نظرية نيوتن في الجاذبية العالمية، التي ترتكز على أعمال الأول لتؤسس مكانيك الفلكية التي نظَّرَ لها الثاني. استهلها بلوني ليواصلها الاتاليون، الالمان، الفرنسيون، الهولنديون، الانجليز والسويسريون، في العلوم الطبيعية، تنتقل ليلتحق بها الدانماركيون والسويديون. الصورة الجديدة عن الطبيعة التي بدأت تترسخ خطوة إثر خطوة من خلال أعمال هؤلاء العلماء تبين أنها متكونة من جزئيات وقوى تتحكم فيها قوانين تمكن من التنبؤ من حالتها المستقبلية لكل من يعرف الحالة الانية لكل الجزئيات التي تدخل في تركيبها في لحظة زمنية مختارة عشوائيا.

 إنتصار العقل والوحدة الثقافية الأوروبية

يستدعي هذا التصور الجديد للكون فلسفة جديدة شارحة له، نجدها لأول مرة في كتاب ديكارت انطلاقا من وجهة نظر منفصلة عن نظام تمثلات مرجعية خاص يختلف عن العقل ويمتاز بالموضوعية. العلم الجديد والفلسفة الجديدة شرعا في إحداث قطيعة جذرية مع العلم التقليدي لم يشهد التاريخ الاوربي مثيلا لها منذ بزوغ فجر المسيحية. عملت أولا على تغيير الايطار العام جزءا جزءا لكل عملية تفكير: مقسمين كل الموجودات الى مقولتين، المرئي واللامرئي المجزء بدوره إلى العقلي والممكن. بالاضافة الى هتين المجموعتين (المقولتين) ستضاف ابتداء مع ديكارت مقولة ثالثة خاصة بالشيء المُلاَحَظ، بالنسبة للموجودات غير المرئية فإننا فانها بديهية لا نحتاج برهانا الا تلك التي يتبعها سبينوزا للبرهنة على الحقائق الهندسية. في ظرف حوالي قرنين، أدى طرح الاشكالية بهذه الكيفية الى انهيار نظام المقولات هذا على وقع انتقادات كل من هيوم وكانط.

في حين أن الآلات التي تتم من خلالها الملاحظة والقياس بدأت تفرض نفسها في العلاقة بين العالم والطبيعة، المعرفة بواسطة ستقتحم كلذلك مجال العلوم التي تتخذ من الماضي موضوعا لها (العلوم التاريخية). ستتعرض لرفض من طرف اباء الكنيسة-مؤقتا- خاصة التشريع القسطنطيني (قانون اصدره الامبراطور قسطنطينوس Constitutum Constantini)، دراسات النقد التاريخي المعاصرة لا تتعرض بالنقد للسلطة التي من شأنها ان تحافظ على المراسيم من الخارج في شكل وثائق بل على العكس نقدها يتجه الى جوهر النصوص ومحتواها، مما يعني أن الماضي –قريبا كان أو البعيدا- يمكن معرفته من خلال الاثار التي خلفتها الاحداث. القائمون بعمليات نقد مماثلة يصقلون عملهم بتوسيع حقول تطبيقاتهم لذلك، اثناء المجادلات التي صحبت الاصلاحات والمراجعات: تاريخ الكنيسة في القرون الاولى من وجودها، الخلافة الرسولية على المناصب الكنسية، اصول استخدام المؤسسات التابعة للكنيسة، من جهتها الدول، قامت بحماية الأبحاث التي تبرر مطالبهم أو الدفاع عن حقوقهم، الامر الاساسي في الصراع بين الولاية القضائية، تداخل الأراضي التابعة لملكيات عديدة وعدم تحديدها جغرافيا، استمرار العلاقات الاقطاعية، الممارسة اساسا من طرف قضاة، هذه الابحاث تقوم على فحص الوثائق القديمة واخضاعها للنقد. بالاضافة الى الكتابة التاريخية ذات النزعة الانسانية التي تريد ان تكون من الآداب، ترسم حدود اختصاصها بدراسة احداث الماضي وتضعها في خدمة التيولوجيا والسياسة.

أدت هذه العملية إلى تطوير وتحسين مستوى النقد. لكنها منعت من إحداث اجماع حول معايير قبول أو رفض المعطيات التاريخية، كل طرف من أطراف الجدال مرتبط بمعتقده وايمانه، البيرونية (نزعة فلسفية شكية منسوبة الى بيرون الاغريقي) تعتقد ان التاريخ بما انه احداث ماضية بعيدة لا يمكن أدراكها فهو لا يمكن أن يكون علما أنما مجاله هو الرأي. الابحاث التاريخية بوصفها انجازا اوروبيا أين يتحالف البروتستانت مع الكاثوليك وأين يتم تبادل للوثائق التاريخية بين انجلترا، فرنسا الامارات المتحدة، حتى عندما تقع حرب بين هذه الدول الثلاث فإن الشعور بالانتماء إلى جمهورية الآداب واحترام اخلاقياتها وقيمها يسمح بإيجاد ارضية مشتركة للتفاهم والتبادل.

البولنديست (bollandiste) فرقة من اليسوعيين تمركزت في الاراضي المنخفضة الاسبانية (هولندا حاليا)، التي عملت على تخليص سير القديسين من الخرافات والاساطير والكرامات التي تلتصق بسيرهم من أجل أضفاء صبغة القداسة عليهم، بتطبيقهم لتعاليم مجمع ترنت -الترينيدي، ليجدوا انفسهم -اعضاء الفرقة- متورطون في مجادلات مع جماعات دينية أخرى، مثلا في فرنسا اخوانية بنديكت بسان مور اصبحت مركزا مختصا في الابحاث الرهبانية. الجدل يتمحور حول اصالة بعض الوثائق التي يشكك اليسوعيون في صحتها. في حين أن مابيو Mabillon بيَّن أن هذا الموقف لا يمكن اثباته، عندما تحدث عن معايير من شانها أن تبين الصحيح من المزيّف من تلك الوثائق المتجادل عليها ولاقت براهينه اعترافا حتى من معارضيه. هكذا ستتبلور في نهاية القرن السابع عشر-بالاضافة الى الدبلوماسية- الدراسات التاريخية مبنية على أساس معرفة بواسطة الماضي أين فكرة موضوعية المؤرخ أصبحت جزءا مهما من عقيدة جمهورية الآداب، سمحت بامكانية الاجماع حول بعض المعايير والقواعد المختلف حولها. على خلفية هذا التطور تشكلت حقول معرفية أخرى بالموازاة: علم الخطوط القديمة (الباليوغرافيا)، الجغرافيا التاريخية، الكرونولوجيا (التسلسل الزمني للاحداث). اصبحت مبادئ النشر دقيقة وصارمة ووسائل وطرق النقد التي نحاول تقنينها بدات تتسع دائرة تطبيقها لتصل إلى الدراسات اللاهوتية (الكتاب المقدس).

دخول المعرفة بالواسطة (واسطة وسائل/ وثائق..) في حقول العلوم الطبيعية والتاريخ، حدث في آن واحد مع إعادة تنظيم داخلية لجمهورية الآداب. عملوا أولا في ايطاليا ابتداء من النصف الثاني من القرن السادس عشر على نشر عدد من الاكادميات، وانبثاق لــــ Respublica Litteraria بالاضافة إلى اماكن للالتقاء والتبادل لمواضيع مثيرة، قراءة الكتب الأدبية، مناقشات حول اللغة، عزف للموسيقى، واقامة عروض، جو مماثل يتداخل فيه العلمي بالفني، وميلاد الأوبرا التي انطلقت من فلورنسا في العشرية الاخيرة من القرن السادس عشر لتنتقل إلى روما والبندقية، قبل ان تجتاح كل أوروبا. شهد القرن السابع عشر صعود لمجموعات غير نظامية عديدة في كل من باريس، لندن، من أجل القيام بتجارب علمية، ومناقشة المكتشفات الحديثة، والتحاور حول ملاحظات عن الطبيعة، الرياضيات، والابحاث في الحضارات القديمة، الكتب الجديدة، او ببساطة لتبادل أطراف الحديث حول المستجدات اليومية. أما الجامعات التي تهيمن عليها الافكار السكولائية كانت عاجزة-ما عدى بعض الاستثناءات مثل: بادوى، وليد- عن إنتاج العلم، لذلك فإن مجموعات مماثلة هي من أخذت على عاتقها توزيع وإدارة العلوم الجديدة والتاريخ الجديد.

الجمعية الملكية بلندن Royal society والاكاديمية الملكية للعلوم بباريس، أكادمية الفنون والاداب بباريس، الجمعية الملكية للعلوم في برلين عاصمة بروسيا، والاكاديمية الامبريالية للعلوم في سان بترسبورغ العصمة الجديدة لروسيا- المؤسسات الرسمية للعلماء تتشكل احيانا بفضل مبادرات شخصية، وأحيانا أخرى قامت الدولة بإنشائها وهذا ابتداء من الستينات من القرن السابع عشر، في الدول المهيمنة حديثا على أوروبا، ماعادى النمسا.ستلتحق بهم في هاته العملية بقية الدول الاوروبية في القرن الثامن عشر. وإذا كانت هذه المؤسسات تسهل نشر الاختراعات العلمية والعمل بها فهي من جهة اخرى تساعد على مراقبة الدولة للعلماء. وكما تعمل على اعلاء قدر العلماء وتكريمهم ومنحهم مكانة اجتماعية مميزة والاعتراف لهم، فهي في نفس الوقت تهدف إلى جعلهم وسائل سطوة وهيبة للدولة. كما أن سياسة هذه المؤسسات هي في نفس الوقت نتيجة صراعات وتسويات للمصلحتين معا.

عرفت العشريات الاخيرة من القرن الثامن عشر تعدد المجلات الصادرة عن تلك الاكاديميات الرسمية le Jurnal des Sçavans - باريس- أو les Philosophical transactions (لندن)، أو عن المجموعات المستقلة مثل: Acta eruditorum في لابزيغ، أو Gornale dei Letterati (في البندقية)، ودوريات العلماء اللاجئين من البروتستانت الفرنسيين بهولندا(الامارات المتحدة) على راسها "les nouvelles de la republique des letters" ( في بايل –روتردام). ليصبح بالتالي الوسط العلمي وسطا مؤسساتيا، يعتمد بشكل أقل على المراسلات الخاصة والعلاقات الشخصية، بل تعتمد اكثر فاكثر على تمويل الدولة التي تدفع علاوات خاصة، تبني المخابر والمراصد، كما تقوم بارسال بعثات استكشافية علمية، بهذه الطريقة ينخرط الوسط العلمي بشكل كبير في حياة العامة لكل دولة. Republica Litteraria La (الايطالية)، وجمهورية الآداب قد جسدت الوحدة الثقافية لأوروبا، التي حافظت عليها والتي احيت مظاهرها ومحتوياتها كلما دعت الحاجة إلى ذلك كحالات العنف الديني أو الحروب طويلة الأمد. إلى غاية بداية القرن الثامن عشر كانت La Republica Letteraria إلى جانب جمهورية الآداب كانتا ماتزالا مستمرتان في الوجود. لكنها إلى جنبها تمتلك أوروبا العالمة “La Republica of Learning, la Respublica dei Letterati et la Gelehtenrepublik”

كارزيستوف بوميان

 مختارات بيبلويغرافية

Brockliss ( L.W.B.), Calvet's Web: Enlightenment and the Republic of Letters in Eighteenth-Century France, Oxford University Press, 2002.
Casanova (P.), La {république mondiale des lettres}, Paris, Éd. du Seuil, 1999.
Fumaroli (M.), « {La République des Lettres »}, in {Diogène}, 143, 1988, pp. 131-140.
Goldgar (A.), Impolite Learning: Conduct and Community in the Republic of Letters. 1680-1750, New Haven: Yale University Press, 1995.
Goodman (D.), The Republic of Letters: A Cultural History of the French Enlightenment, Ithaca NY: Cornell University Press, 1994.
Grafton (A.) & Jardine (L.), From Humanism to the Humanities. Education and the Liberal Arts in Fifteenth – and Sixteenth – Century Europe, Cambridge, Mass., 1986.
Israel (J.), Radical Enlightenment: Philosophy and the Making of Modernity, 1650-1750, Oxford/New York: Oxford University Press; 2001.
Mori (G.), {Bayle philosophe}, Paris, Honoré Champion, 1999.
Pomian (K.), {L’Europe et ses nations}, Paris, Éd. Gallimard, 1990.

Pour citer : Krzysztof Pomian, «République des lettres», in Houari Touati (éd.), Encyclopédie de l’humanisme méditerranéen, hiver 2014, URL =http://www.encyclopedie-humanisme.com/?République des lettres